5 دقائق

راوية الأدب العربي في ذمة الله

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

شيَّعت دبي والإمارات عامة في الأمس الأول راوية الأدب العربي؛ التاجر الصدوق، والرجل الصالح، والمثقف المخضرم، أبا عبدالله محمد الجاز - رحمه الله رحمة واسعة وأنزله المنزل المقرب لديه - ذلك الرجل الراوية للأدب العربي شعراً ونثراً، والصاحب المصاحب للكتاب، والحافظ للتاريخ قديمه وحديثه، فضلاً عن كونه تاجر الدنيا والآخرة.

• دعوتنا للجيل أن يقرأ الكتب النافعة ويجعل من ميزانية هواتفه ورسومها قسطاً للكتاب.

فقد عاش زمناً مباركاً قارب التسعين عاماً وهو ملازم لهذه الصفات، لم يغير الله تعالى عليه حالاً، ببركة ما كان عليه من الصلاح والاستقامة وفعل الخير لنفسه وللغير، عاش محباً للأدب، فما كنت أجالسه إلا بطرح أدبي، لاسيما شعر المتنبي الذي كان يحفظ جُلّه، فلا تمر عليه مناسبة إلا وأنشد فيها من شعره غالباً أو من شعر شوقي أو شعر حافظ أو شعراء الخليج كالعقيلي والسالمي وغيرهما، أو الشعراء الأقدمين كالطغرَّائي وغيره؛ ما يحتجُّ به لقوله، ولا أتيته في مكتبه إلا والكتاب بين يديه، يقرأ كتاباً بعد آخر، وأخبرني أن لديه مكتبة عامرة فيها نفائس كتب الأدب والثقافة، ولا تجاذبنا أطراف الحديث في التاريخ والأدب إلا وجدت عنده التحقيق الدقيق والخبر الأنيق.

لقد ودعناه بكل أسى فودَّعنا جِهبَذاً من جهابذة الأدب العربي روايةً، والثقافة الإسلامية والعربية قراءةً وحفظاً، وقد كان يمازحني كثيراً ويقول: أنا أعلم منك إلا أنه ليس لدي عمامة! ويذكر أنه تتلمذ على شيخنا الشيخ محمد نور سيف هلال المهيري ــ رحمه الله ــ فأقول له: نحن إذاً زملاء، من باب السابق واللاحق، فيجيبني مازحاً: لا نستوي، أنت فقير وأنا غني، ومع ذلك فكان لا يقدم في أمر دينه ولا يؤخر إلا سألني عن حكم الشرع فيصير إليه ويرضى به، ويقول ما زحاً: نعلقها برقبة عالم.

ودعنا المؤرخ الذي عايش عصر النهضة العربية، وكان قريباً من الساسة الكبار، فلا أجلس معه إلا وذكر من مآثر الشيخ زايد بن سلطان، والشيخ راشد بن سعيد، رحمهما الله تعالى رحمة واسعة، ما يثلج الصدر ويسر الخاطر؛ حكمة وروية وتاريخاً ناصعاً بالمسرة، فقد كان مقرَّباً لهما، وسفيراً بينهما، وله بُعدٌ سياسي حكيم، وله تحنُّنٌ كبير على مصر العروبة ورئيسها الراحل عبدالناصر ورجال عصره الكبار من أدباء وسياسيين وغيرهم، ويقول: إنه لم يأت بعدهم مثلهم.

ودعنا هذا الرجل الذي ترك من الآثار الخيرة في بناء المساجد وفعل الخيرات ورعاية الأيتام وكفالة الطلاب وغير ذلك ما هو شاهد له في الدنيا، وذُخرٌ له في الآخرة.

ودعنا هذا الرجل الذي قد لا أجد له ثانياً في تلك المناقب المتعددة، والكل يرجو له من الله تعالى العفو والعافية، والمنزلة المقربة لديه سبحانه، مع عباده الأخيار الأبرار من الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فإنه سبحانه لا يُضِيع أجر من أحسن عملاً، وظننا بالله حسن أن يتقبله قبولاً حسناً، ويضاعف له الحسنات، ويقيل عنه العثرات.

وإن آسى فعلى مجلسه العامر، ونقاشه المفيد، ونظره الثاقب، وسمته الصالح، إلا أن ذلك لا يعني أن الساحة قد خلت من أمثاله، ففي الزوايا خبايا لعلنا لم نطلع عليها، ودعوتنا لها أن تظهر كما كان الشيخ محمد الجاز بارزاً نافعاً، حتى يكونوا نماذج لأبناء العصر من الجيل الجديد الذي عزف عن الأدب والتاريخ والقراءة والثقافة، واكتفى بأدب الجوال وما حوى من وسائل التواصل الاجتماعي التي شغلت الخاطر والناظر، ولا تعود بطائل، دعوتنا للجيل أن يقرأ الكتب النافعة، ويجعل من ميزانية هواتفه ورسومها قسطاً للكتاب، ومن ساعات تصفح الـ«تويتر» والـ«واتس أب» ساعات للكتاب، فهو النافع للألباب.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر