لحظة

السعادة الصغيرة

ياسر حارب

مُقدِّم إذاعي ناجح، لا يهم من أين، قضى سنوات طوالاً يرتقي سلم النجاح. اشتُهِر عنه أنه كان يلبس أفضل ما عنده عندما يذهب إلى الإذاعة وكأنه ذاهب إلى لقاء رسمي. وفي أحد الأيام، دُعي للقاء تلفزيوني إلا أنه تأخر عن المقابلة قليلاً، وعندما حضر قال للمخرج إنه عندما كان في الطريق إلى الاستوديو تذكر أن جواربه ليست جيدة، فاضطر للتوقف في أحد المحال لشراء جوارب جديدة. ضحك المخرج وقال له إنه لن يصور جواربه، وفي كل الأحوال فإن المشاهدين لا يهتمون بهذه التفاصيل. ابتسم الضيف وقال: «كيف ستشعر إذا خرجتَ من منزلك بملابس داخلية قديمة.. لن تكون مرتاحاً أليس كذلك؟ لقد قضيتُ عمري كله في غرفة إذاعية صغيرة لا يراني فيها أحد، لكنني كنت ألبس أفضل ما عندي حتى أشعر بالراحة وأنا أتحدث، فينتقل ذلك الشعور إلى المستمع».

شهير آخر، سيناتور أميركي، لُقّب بالنحيف صاحب الوجه الطويل. عانى كثيراً في حياته من فقر أسرته ومن شكله وأصيب بعقدة نفسية لأنه لم يكن يستطيع أن يجد ملابس تناسب جسمه النحيل جداً. وعندما عمل واستطاع أن يُعيل نفسه، كان أول شيء قام به هو تفصيل «بدلة» تناسب جسمه، ومع مرور والوقت صارت أناقته حديث مَن حوله، حتى حصل على لقب أفضل أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي أناقة. قال إن أول وأهم أمنياته في حياته كانت قدرته على شراء ملابس تناسبه.. ملابس لا يخجل من لبسها أمام الناس.

هناك كلمة إنجليزية لم أجد لها ترجمة في القاموس العربي «enoughness» وربما يصح أن تترجم إلى «الاكتفاء». إنها حالة روحية عظيمة لا يرتقي إليها من يمضي حياته في صراع على السُّلطة، والثروة، والإنجازات العظيمة والمدوية. هي أحد مقامات النفس السعيدة، التي تفرح كثيراً عندما ينتعل صاحبها حذاء نظيفاً، أو يشرب قهوة دون أن يفكر في شيء غير القهوة. إنها شعور يأتي بعد تحقيق «الحاجة» مباشرة.. توقفتُ قليلاً عندما كتبتُ هذه الكلمة وسألتُ نفسي: «متى شعر أحدنا بالحاجة؟» ولا أقصد هنا الحاجات المادية، بل الحاجة الماسة إلى سعادة صغيرة. متى شعرنا بالمحدودية في حياتنا؟ هل سبق لك أن شعرت بالانتشاء لأنك تلبس جوارب قديمة؟ لا أظن، ولا أظن أنك تستمتع بثيابك التي ربما لا تعرف كم عددها في دولابك.

إذا كانت مكاتبنا تدفعنا إلى الصراع للسُّلْطة، وإذا كانت منازلنا تذكرنا بالثروة، وإذا كانت رائحة القهوة توحي لنا برائحة العمل، فمتى نسعد؟ لا أقول إن العمل لا يمنحنا السعادة، لكن هناك أشياء جميلة أخرى، إلا أنها أصغر حجماً.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر