5 دقائق

الدين بين التحريض والتسطيح

عادل محمد الراشد

صليت الجمعة في مسجد بإحدى الدول الشقيقة، أطال خلالها الخطيب الخطبة، فصال في دهاليز السياسة، وجال في مسطحاتها، ولم يوفر نبرة في صوته، وهو يذكر سوءات «البيت الأسود»، ومؤامرات أجهزة المخابرات، وبعد ما يقارب الأربعين دقيقة، قمنا إلى الصلاة بظهور منحنية، ومفاصل تسمع أصوات «طرقعاتها» من حولها، وأقدام متنملة، وشعور بحسد حميد لمن احتاط لهذه المحاضرة الطويلة بالجلوس على كرسي، انزوى به في إحدى زوايا المسجد.

• «الخطاب الديني، في زماننا، صار ضحية تجاذب بين تحريض يبث الكراهية، وتسطيح يسعى إلى تفريغ الإسلام من مضامينه الأصيلة».

انتشرنا في الأرض بعد انقضاء الصلاة، وأحسست بعدها بانتثار في فهمي، أحاول لمّ شعث تركيزي لأخرج بزبدة القول كما يقولون، فلم أصل إلا إلى شعور بالفوران، سرعان ما انطفأ سعيره عند عتبات المسجد، لأرى مشهداً من الفوضى غير الخلاقة، والازدحام الضارب بكل نواميس آداب السير على الطريق والمخالف لقوانين الحركة في الأرض. رأساً ذهب فكري إلى الأصل متسائلاً: كيف كانت خطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وموضوعاتها وأسلوب طرحها في وقت كان فيه المسلمون في حالة حرب دائمة، للذود عن دينهم، والدفاع عن وجودهم؟ فوجدت جوامع الكلم، ووضوح الطرح، وحسن التعبير، ورأيت بناء الإنسان وتحصينه من وساوس نفسه، ونزغات الشياطين من حوله، وتطوير سلوكه، ورفع مستوى تفكيره، وإثارة ملكاته، وتحفيز قدراته، هي المحور الذي حولها يدندن الخطاب الذي حوَّل أولئك الأعراب المتخلفين إلى أمة تصدّر الحضارة، وتنشر السلام، وتُعلي من قيمة العلم، وترفع مقام العلماء، وتذيب الفوارق، وتزيل العداوات، وتوئد الفتن، وتقيم حضارة حدودها من إسبانيا إلى الصين.

الخطاب الديني، في زماننا، صار ضحية تجاذب بين تحريض وتسطيح، تحريض يبث الكراهية بتوظيف مجتزئ للنصوص، يسعى إلى إعادة الناس إلى عصر الجاهلية الأولى ذات الفزعة الجاهلة والغيرة القاتلة، وتسطيح يحاول إفراغ الدين من كل مضامينه الأصيلة، وحصره في عبادات حركية وهيئات لاهوتية، وصبغه بمفاهيم ملتبسة وأفكار مختلطة، ومواقف مهجنة وشخصية ممسوخة تابعة. وكلا الاتجاهين يأخذنا إلى المجهول. والأولى بمن يتصدى للدعوة وسط هذا الغثاء الكثيف أن ينظر حوله، القريب قبل البعيد، قبل أن يوجه بوصلة دعوته بالقول والفعل. فما أبسط الإسلام وما أوضح تعاليمه وما أسهل معانيه، إذا كان النهج النبوي هو منهجه دونما حاجة إلى تكلف أو تنطع أو تفلسف أو ادعاء، لم ينتج عنه حتى الآن غير دمار الأوطان!

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر