5 دقائق

صحيفة المدينة وإعلان مراكش

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

أسست صحيفةُ المدينة المجتمعَ المدني المسلم المسالم؛ حيث كانت إعلاناً دستورياً ووثيقة وطنية يتعايش في ضوئها أفراد المجتمع المدني بمختلف أطيافه، الديني والعرقي، فأرست قواعد التعايش على وجه العدالة أحياناً، والفضل أحياناً أخرى، وحافظ عليها المسلمون أشد ما تكون المحافظة؛ لأنهم دعاة حضارة وعمارة، ودعاة تسامح وتعايش، وذابت في ضوئها الفوارق المجتمعية، فتآخى المهاجرون الغرباء مع المواطنين الأنصار، وتقاسموا الخيرات والثمار، وكان الواجب على طوائف اليهود أن تعيش في ظل هذه الصحيفة كمواطنين متساوين مع غيرهم في الحقوق والواجبات؛ لولا أن الطبيعة غالبة، فأبت عليهم إلا المكر والخداع، ما أوجب على الطرف الآخر من طرفي الصحيفة أن يحمي نفسه وبقية المجتمع، كما تقتضيه الأعراف العالمية التي يعرفها البشر. وقد كانت هذه الصحيفة تشريعية للأمة، تقتبس منها ما تحتاجه في أي زمان ومكان، وقد طبقت الأمة مبادئها على مر القرون وفي مختلف البلدان، فما من بلد من بلاد الإسلام إلا وكانت فيه طوائف مختلفة تتعايش على مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، اقتباساً من مشكاة صحيفة المدينة.

• لو كانت هذه الصحيفة في المناهج الدراسية، دراسة وشرحاً واستنباطاً، لكان لها الأثر الكبير في حياة الناس.

وقد أكبرتُ كثرة الديانات التي عايشت الخلافة الإسلامية في عاصمتيها الشامَ ثم بغداد، فقد كان يعيش اليهودي والنصراني والصابئ والمجوسي والبوذي والدرزي والنصيري والزردشي واليزيدي والشبكي وغيرهم في بلد واحد أو في حارة واحدة بجوار المسلم السني، الكل في حماية واحدة، ووطنية متساوية.

وقد انطلق إعلان مراكش الصادر في 27 من يناير الماضي لحقوق الأقليات غير الإسلامية في بلاد الإسلام، الصادر عن منتدى تعزيز السلم ووزارة الأوقاف المغربية؛ انطلق من تلك الصحيفة، فكان إظهاراً كافياً لمنهجية الإسلام في التعايش مع غير المسلمين، وقد حضره مختلف الديانات من مختلف البلدان، فعلموا أن الإسلام أنصفهم في التعامل، ومن قرأ تاريخ الإسلام لم يكن يخفى عليه الكثير مما تضمنه الإعلان؛ استناداً إلى تلك الصحيفة العادلة.

إذاً فما الذي تغير في منهجية الإسلام حتى احتيج للدفاع عنه ببيان أنه يعايش الجميع من غير مراء ولا عناء؟

إن الذي حدث هو التعدي على هذه المنهجية من قبل حدثاء الأسنان ضعفاء الأحلام الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ففعلوا أفاعيل منكرة، ظنها الجهلاء من غير المسلمين أنها هي الإسلام؛ ما جعل هذا الغير يحمل حملة شعواء على الإسلام وأهله، وأنه ليس الدين المرتضى من الله لخلق الله، فصار كل مسلم في موقع الدفاع عن الدين المرتضى، والشريعة الوسطية، والأخلاق العظيمة. وسبب ذلك هو عدم الاهتمام بتدريس تلك الصحيفة وإشاعتها بين الناس، فلا يكاد يعرفها إلا المتخصصون في السيرة النبوية أو التاريخ أو المحدثون والفقهاء، فلو كانت هذه الصحيفة في المناهج الدراسية، دراسة وشرحاً واستنباطاً لكان لها الأثر الكبير في حياة الناس، ولما وجدت «داعش» ولا غيرها، فإن السيرة النبوية هي نور الهداية، وهي الحياة العملية للمسلم في السلم والحرب والسراء والضراء.

لقد تضمنت صحيفة المدينة 54 بنداً، كل بند له أصله العظيم من نصوص القرآن الكريم ومقاصده الشرعية، فهي بغية كل مسلم علماً وعملاً، فعلى الكل أن يعود إليها قراءة وتحليلاً وتنزيلاً للواقع، إن كنا نريد الهدى القويم والنهج المستقيم، وإلا فإن اللوم كله علينا، فيصدق علينا قول الشافعي رحمه الله تعالى:

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا

وقد نهجو الزمانَ بغير جُرم ولو نطق الزمانُ بنا هجانا.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر