أبواب

ضباع لا تأكل الجيف

جمال الشحي

يُقال إن الضباع حيوانات طفيلية، بمعنى أنها تقتات على بقايا فرائس الحيوانات الأخرى، أو الحيوانات النافقة. والضبع في الذاكرة الشعبية حيوان جبان، غدار، فيه من النذالة والغباء الشيء الكثير. وحسب علماء الحيوان، عواء الضبع المرقط يشبه ضحكة هستيرية للإنسان تقريباً، ويبث الخوف في النفس! كل هذه الصفات بالإضافة إلى شكله القبيح وصورته وهو يأكل الجيف، أسهمت في تشكيل فكرة شبه مغلوطة عن هذا الحيوان الغريب المثير، الذي حضر أثره في كل الموروث الإنساني الشرق أوسطي على الأقل.

هذا الحيوان هو الأقل حظاً من بين الضواري؛ بسبب صوته وشكله أو صورته القبيحة، على الرغم من مساهماته الكبيرة في عملية التوازن البيئي، عبر التهامه بقايا الحيوانات النافقة، التي لا يقدر كثير من الحيوانات الأخرى عليها. ومع ذلك يقول العلماء: إن الضبع صياد ماهر وليس مجرد طفيلي يتعيش على القمامة أو فضلات الحيوانات الأخرى، فهناك أنواع من الضباع لديها القدرة على اصطياد طرائد أكبر من حجمها بكثير، وتقوم بذلك بمهارة فائقة، وأن الجيف لا تمثل من غذائها الأساسي سوى نسبة قليلة. ومع ذلك لم تشفع للضبع هذه الخصال الجيدة في الذاكرة الشعبية، بحيث ذهبت كل الفضائل أو جميع الصفات الحميدة للسباع، فهي «الأوفر حظاً» بالحضور، سواء في الأغاني والأراجيز والأشعار، أو في الأمثال والأقوال الدارجة على كل شفة ولسان. ومنها ما شاع على ألسنة العامة في كل مناسبة للفخر أو التباهي، مثل قولهم: «سبع أو ضبع»، أي سالم وغانم، أو فاشل وخاسر.

الضبع ربما خذله شكله وصوته، وربما خذلته الحدبة على ظهره، وربما خذلته أيضاً بعض عاداته الذميمة وانعزاله التام؛ كونه حيواناً ليلياً بامتياز. فالخذلان لازمه رغم تقديمه الكثير من الخدمات للمجتمع الإنساني كما أسلفنا، بحيث ذهبت جميع المناقب الأثيرة والخصال الحميدة للحيوانات الأوفر حظاً، مثل الأسود والنمور، التي أصبحت بمثابة رمز أو «ماركة مسجلة» للقوة والشجاعة في كل زمان أو مكان، في حين شطب اسم الضبع عمداً من سجل المفاخر والمكرمات!

معادلة «الضبع والسبع» يمكن إسقاطها على البشر، ذلك لأن الغلبة في معظم المجتمعات هم في خانة «الأقل حظاً»، رغم أهمية خدماتهم في تطور المجتمعات، لا بل يمكن اعتبار حضورهم بمثابة الأساس الصلب أو القاعدة المكينة في عملية التطور والتقدم الإنساني على العموم. ومع ذلك يتخطاهم العدد وتتجاهلهم القوائم أو السجلات النخبوية. يخذلهم شكلهم، ويخذلهم انعزالهم، وربما تخذلهم قدرتهم على المشاركة والتواصل مع الآخرين، ويخذلهم أيضاً النسيان، نسيان الناس لجميل أفعالهم، وقد يكون تعففهم من أكبر مشكلاتهم في قائمة الخذلان المتطاولة في حيواتهم.

وفي المقابل يتصدر الواجهة «الأوفر حظاً»، السباع! وغالباً ما يكونون في المقدمة بلا مجهود يُذكر؛ سوى الحضور الجميل، والتواجد في الوقت والمكان المناسبين بجهوزية تامة؛ لأنهم يحترفون اقتناص الفرص، أو بمعنى أدق؛ لأنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، كما تقول العرب.

يبدو أنها قاعدة القواعد؛ لأنها من دون استثناء. فالسباع حاضرون ناضرون في كل مكان، والضباع خارج منظومة المكان أو الزمان. ومع ذلك فالعجلة لا تدور من دون الضباع. ولكن حينما تدق ساعة الاحتفال بالإنجاز، يغيبون، ويتقدم السباع في المشهد.

«أيها الحظ التفت، التفت إلي، واقف أنا بالانتظار منذ أمد طويل». هذه صرخة ضبع يندب حظه ويشكو حاله.. غالباً ما سمعتها تتردد على الألسن والشفاه، وغالباً كان الناس يسمعونه «بالأذن الطرشاء».

كانت العرب تقول قديماً: «اللهم سبعاً وضبعاً»، وكنت عندما قرأت هذه المقولة في المرة الأولى أصابتني الدهشة وشيء من الحيرة، إلا أنني بعد هنيهات من التأمل والتفكر أدركت أن فلسفة الصراع في زمن «البقاء للأقوى» كانت معرفتها تقتصر قديماً على الحكماء المجربين.

أما الآن في زمن التحديات الحضارية، أو زمن الرهانات الكبرى على العلم والمعلوماتية المتاحة للجميع بأيسر السبل، فأعتقد أن وقت التغيير قد آن أوانه، بحيث يصير الدعاء: «اللهم سبعاً فقط».

يقول صاحبي: أنا من جماعة «الأقل حظاً»، لكنني سعيد بحياتي؟ قلت له: لا تعليق..

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر