5 دقائق

وعاد بيت الحكمة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لم يزل اليأس الثقافي مخيّماً على المكتبة العربية والإسلامية، أن تعود إلى أمة الحضارة والعلم والقراءة بيت الحكمة، الذي كان مصدر إلهام للعالم الإسلامي والعربي، فأنجب عقولاً كبيرة، فوجد الفارابي والكسائي وسيبويه وابن السكيت وأبويوسف.

المكتبة التي أبادها الغزو التتري لعاصمة الخلافة، بغداد المنصور والرشيد والمأمون سنة (656هـ/‏‏1258م)، حيث تم تدمير معظم محتوياتها في ذلك الوقت، وكان فيها ما يزيد على 300 ألف كتاب.

إلا أن ذلك الغزو لم يستطع أن يزيل عقولاً ترى أن القراءة حياتها وروحها، فقد كانت إبادتها مصدر إلهام للعقول العربية والإسلامية للتحدي الحضاري، فنشأ بعدها رجال أفذاذ ملأوا الدنيا علماً وحكمة.

• إن الأمم الحيَّة هي التي تقرأ، وهي التي تفكر وتنتج وتعمر الدين والدنيا، وليست التي تتكل على ماضيها العريق ثم تنساه.

وها هو بيت الحكمة يعود بمكتبة محمد بن راشد، حفظه الله، الذي أراد لهذه الأمة أن تستعيد مجدها التليد، ليعيد للأمة حضارتها، كما قال: «نحن أصحاب حضارة ورسالة وثقافة، ولابد من إحياء روح المعرفة في شعوبنا عبر مبادرات تتجاوز الحدود».

رجل ينشئ «مكتبةً ستحوي، إن شاء الله تعالى، 4.5 ملايين كتاب، بين كتب مطبوعة، وإلكترونية، ومسموعة، وبعدد مستفيدين متوقع سنوياً يبلغ 42 مليون مستفيد».

رجل ينشئ «مكتبة حيَّة تصل إليك قبل أن تصل إليها، وتزورك قبل أن تزورها، وتشجعك على القراءة منذ الصغر، وتدعمك عالماً وباحثاً ومتخصصاً عند الكبر».

إنه رجل يحمل همَّ أمَّة، فهو أمَّةٌ في رجل، كما قال أبونواس:

ليس على الله بمستنكرٍ أن يجمعَ العالم في واحدِ

إن أمة القراءة لعطشى لمكتبة كهذه، تجد فيها سلوتها وأنسها، تجد فيها غذاءها وشفاءها، تجد فيها متعة العقل والروح، تجد فيها الملاذ للفكر، والنافذة للإبداع، والطريق للتفوق، تجد فيها ما لذَّ وطاب من أخبار من مضى، وعمل ما يجب للمستقبل، تجد فيها الكتاب والكاتب والعالم والمبدع، لا جرم أنها ستكون مدينة للمعرفة، وليست بيتاً فحسب.

هكذا يريد شيخ الأدب والعلم والسياسة والحضارة والفروسية والإبداع لهذه الأمة أن ترقى للعُلا، وتخرج من غياهب التخلف الذي ساد، فولد شباباً عاطلاً يائساً، فنقم على ساسة ضيّعوه، وخرج عليهم بحد السيف حينما لم يجد حظاً من الاهتمام، ولا حقاً من الرعاية. وليتهم كانوا يستذكرون أمير الشعراء شوقي حين قال:

يا طالباً لمعالي الملك مجتهداً ...

خذها من العلم أو خذها من المالِ

بالعلم والمال يَبني الناس ملكهم ...

لم يُبنَ ملكٌ على جهلٍ وإقلالِ

لكن لا يذكر ذلك إلا من له عناية بالأدب والعلم كهذا الرجل الفذ.

إن الأمة التي تقرأ ليست فارغة للفوضى، ولا محتاجة للمال، ولا راغبةً في سفك الدماء، إنها تجد أن عندها من الغناء المعرفي ما يفوق الغناء المادي، ولديها من لذة العلوم ما يغنيها عن ملذات الحياة، وعندها من الطموح ما يخرجها عن دائرة التخلف، ومن الإصرار ما يقضُّ مضاجع الكسل، ومفتاحُ كلِّ ذلك مكتبة عظيمة من رجل عظيم، تصنع رجالاً عظماء.

إن الأمم الحيَّة هي التي تقرأ، وهي التي تفكر وتنتج وتعمر الدين والدنيا، وليست التي تتكل على ماضيها العريق ثم تنساه، فيقولها القائل:

لئن فخرت بآباءٍ ذوي شرف ...

لقد صدقتَ ولكن بئس ما ولدوا

إن عصرنا هذا هو عصر معترك الإبداع في كل مجال، فمن لم يخض هذا المعترك فسيبقى خارج الحياة، ويموت خارج التاريخ، فيكون نسياً منسياً، وهذا ما لا يليق بأمة «اقرأ» وأمة من «بعث معلماً»، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

تويتر