أبواب

الروايات الجيدة

ريم الكمالي

بعد قراءة كل رواية جيدة يتسلل بداخلنا شخص آخر، أو تستيقظ فينا عين أخرى نرى بها ما قد اتقد في الأعماق، متسائلين: أين كانت تلك العين؟ ولمَ طالت في إغماضتها عن حقائق كانت أمامنا في كل زاوية وكل ركن؟

الرواية الجيدة تعمل عملها اللازم في سلوكنا وأفكارنا، تحول مشاعرنا النائمة إلى إدراك، وغفوتنا إلى صحوة، وسهونا إلى انتباه.. كيف لفقرة صغيرة أن تأخذنا نحو الظنون والشكوك، تندس فينا وتتغلغل، يا لها من فقرة ضئيلة في حجمها، وعملاقة في ما تطرح بصدق وفي بِضع جُمل، تنشر الفكرة بلا استئذان، تبسط فينا وتسكننا، تلاطفنا ولا تبرح.

الحروب المدمرة لم تتوقف منذ قرون بعيدة، وكذلك الأمراض والأحزان والتدهورات النفسية والمالية.. فهل نواجه العالم الذي سيهدرنا كما هدر غيرنا؟ لا وقت لنسكب أنفسنا ونرهق أرواحنا بالمجابهة والمعارضة والمُنازلة، علينا فقط - إن كُنا قادرين على الإنتاج - أن ننتج في صمت ما يمكن أن يبقى لنصمد، مهما كانت ظروفنا، هذا ما نجده في رواية «سمرقند» للفرنسي اللبناني أمين معلوف، حيث تمضي بنا إلى اللامبالاة، تجعلنا لا نكترث بالأحداث حولنا، بقدر اهتمامنا بما ننتج، كما فعل بطل الرواية عمر الخيام.

• لا وقت لنسكب أنفسنا ونرهق أرواحنا بالمجابهة والمعارضة والمُنازلة.. علينا فقط - إن كُنا قادرين على الإنتاج - أن ننتج في صمت ما يمكن أن يبقى لنصمد، مهما كانت ظروفنا.

ومن اللا اكتراث نذهب إلى التحول كيف يتحقق في داخلنا كما أتى في رواية «البارون المُعلق» للإيطالي إيتالو كالفينو.. حكايةٌ تسمو بالنفس بعد قراءتها، ليتحول الخوف إلى حرية، وينتقل الحُمق والغضب إلى تسامحٍ كلي، ننتبه للأشجار وهي تحافظ على مُهجة جنانها، تعانق أغصانها بحب أمام البشر وهم في حالة قتل وفوضى، وهكذا لتُبدلنا حروف الرواية نحو الاستسلام إلى المصير الذي لم نرسمه لأنفسنا.

مصيرٌ حتمي يذهب بنا إلى القبر المحتوم في رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون وَيَا لبراعته في أن يصور لنا حالة البطل المسجون في حفرة تحت الأرض ولمدة ثمانية عشر عاماً، نتعرف حينها على معنى حقيقة الإيمان بالحياة، في التمسك بها.. لقد كان يلامس ليل نهار رأس القبر ليخرج.

ومن قدر إلى قدر أتحول إلى «عبث الأقدار» لنجيب محفوظ، حين قرر الملك خوفو أن يهزم المكتوب والمقدر، لم يستسلم ولم يخضع أو يذعن، في أن يجعل من النهاية كما يشاء هو لا القدر، وندرك هنا الإنسان وما يعتريه من قلق، مهما كان عالي الشأن، فهو يفني ويُبيد حياته الحُلوة كلها في خطط من أجل بقاءٍ سرمدي.

لا ثبات حولنا ولا دائم، لتخرج قناعات أخرى كما روي في رواية «الأبله» للروسي دوستويفسكي، نقرأها ليخترقنا ذلك البطل الأبله والأشبه بطفل، يحرك فينا أشياء لم تكن على البال، وتصبح لدينا في نهايتها القدرة على النظر إلى دواخلنا، لنحبو في ذواتنا على مهل.. نحن لا غيرنا، وهذا ضد ما يجري في رواية «الحب في زمن الكوليرا» للكولومبي ماركيز، الذي يقلب موازيننا من قناعات كانت نائمة لتأتي لنا بالفرج والصبر والحب، فلا ثابت حولنا ولا دائم.

الرواية الجيدة مُغيّرة، تَنفذ فينا بحب، تُطبطب علينا، ومن ثمن تُدخلنا أبواب الحياة التي لا نعرفها.. أبواب تفتح الكوامن والخوالج فينا والعواطف.. نختلف بالتدريج ليس رغماً عنا بل باقتناع وحب، حتى تجعلنا نتقبل بعضنا بعضاً.

دمتم قراء وإلى الأبد..

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر