أبواب

ريشة بشعور إنساني

ريم الكمالي

لم يخطط فان جوخ للوحاته التي أبدعها، وأين من الممكن أن تباع في ما بعد، أو لأي فئةٍ من البشر؟ بل رسم معظم أعماله بمشاعره وأحاسيسه كفنانٍ حقيقي، ليعبر عن إنسانيةٍ عالية، خصوصاً حياة الفلاحين وهم يزرعون في أراضٍ ليست لهم، من الشروق إلى الغروب، وهذا الحصاد الهائل الذي يذهب إلى ملاك الأرض، في المقابل يعود الفلاح فقط بقُوتِ يومه، حين لم يكن هناك تأمين صحي، أو إجازة أسبوعية مما يبقيه جائعاً ومهموماً إن لم يعمل يوماً.

• العائلات البرجوازية الأوروبية وبالتحديد في القرن التاسع عشر لا يمكن أن تعلق في منازلها الأنيقة لوحات تعود إلى فلاح وهو يعمل في الحقل، بقدر بحثها عن رسوم تُعبّر عن حياة الرفاهية، ناهيك عن البورتريهات الشخصية.

بعد كل هذه القرون من اللوحات الواقعية والرومانسية، يُعبر فان جوخ عن حياة الأرض ومن يشتغلون فيها، لابد أنها ثورة مغايرة في عالم الفن، لوحة لفلاحي الأرض بثيابهم الرثة، أو لوحة لأحذيةٍ مهترئة، أو لآنية فيها اثنتا عشرة زهرة لعباد الشمس بين الميتة والمكسورة الغصن أو اليابسة.

ورغم أنه يشرح فيها دورة حياة الإنسان، لكن الآخر لا يريد سوى رؤية الألوان الزاهية، أو تصوير عائلة جميلة في نزهة، بحيرة بقوارب، أوانٍ فضية بفواكه ملونة، مائدة عامرة في احتفال، الشكل الجميل، المنظر الشبيه بحياتهم، ولا مجال في القلب والوقت لرؤية مشاهد الفقر والأشكال البائسة لآكلي البطاطا بألوانهم القاتمة والحزينة، رغم عمقها وفلسفتها.

العائلات البرجوازية الأوروبية وبالتحديد في القرن التاسع عشر لا يمكن أن تعلق في منازلها الأنيقة لوحات تعود إلى فلاح وهو يعمل في الحقل، بقدر بحثها عن رسوم تُعبّر عن حياة الرفاهية، ناهيك عن البورتريهات الشخصية.

فماذا يعني أن ينظر إلى زوج الأحذية الرثة، من هذا العبثي؟ وهل سيعلقها في بيته؟

لم تكن الأسئلة التي تُطرح تشبه وعي الإنسان الحالي، عن جوهر التجاعيد على الحذاء وآثار البلاء لصاحبه، أو أن هذا الحذاء ليس إلا رحلة في هذه الحياة، رحلة روحية تنتصر للإنسان البسيط والفقير، أما فان جوخ لم يرد إلا جعل هذا العالم اللاهي يلتفت إليهم فقط.

لم يستسلم فان جوخ رغم روحه المعذبة والضجرة في طرح أسئلته العبقرية بشكل بريء سبقت زمنه، ولم يغب عن الحقول يقتنص مشاهد توقظ فيه الآلام المنسية، لتخرج لوحاته التي لم يحاول أحد تفسيرها سوى أنه رجل مجنون.

هذا المجنون الذي عبّر عن الآخر دون قرار، فلا يُبدع الإنسان إلا من فرط أحاسيسه الصادقة، ما أودى به إلى الجنون الذي تفاقم بعد عطائه الكامل.

تأمل فان جوخ في هذا العالم ذلك الإنسان المنسي وشعر به وتفاعل معه. لكنه لم يجد الصدى ولم يلتفت للوحاته أحد رغم ضربات فرشاته الدقيقة لجعلها غنائية قدر الإمكان حتى تعكس المتلقي... حزن واكتأب ليجن جنونه، ويقدم على قتل نفسه.

الخلق والابتكار... كلها إبداعات ثورية مرتبطة بالحس العالي، لا بالموهبة وحدها، وحتى نخلق فناً جديداً، وثورة فكرية نغير بها الرؤية الروتينية والمتوارثة لدى الإنسان فلابد أن نشعر تجاه ذلك الآخر غير المعروف، واللا مسموع، واللا مرئي أحياناً، نراقبه بدهشة حزينة، نسمعه لنعرفه، نفكر فيه ونعمل من أجله ونهتم لحاله، وإلا ما معنى الموهبة إن لم تخرج بكل ذلك، أو لمَ كل هذا الفن ومن أجل من؟

أختم مقالي بما كان يقوله الممثل الكوميدي الإنجليزي الأميركي شارلي شابلن: نحن نفكر كثيراً ونشعر قليلاً.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر