مزاح.. ورماح

زفير البندقية..

أحمد حسن الزعبي

تعوّد العربي على المرارة منذ الأزل، فمنذ كان ابن الصحراء وسيدها، أول ما يهرول إليه فنجان القهوة السادة، ودِلال البنّ المتوهّجة على نار الفجر.. وعندما أصبح ابن المدينة وسيّدها، بقي أول ما يهرول إليه «مرارة الأخبار» ونشرات المدن المتوهّجة على نار الغدر.

لو أفرغت الأصوات التي سمعتها في أذني منذ وعيت على الدنيا، من «لندن» إلى «مونتي كارلو» إلى «إذاعة الشرق» إلى «الشرق الأدنى» إلى «صوت العرب» إلى «صوت فلسطين» إلى «صوت الجنوب» إلى «الجزيرة»، وقمت باستعراض أسماء المذيعين، الذين نقلوا إلينا أنباء الانفجارات وتفاصيل الاعتقالات، ومواقيت الاقتحامات، وتلوا علينا أسماء الشهداء الذين ارتقوا في عمليات المقاومة، ونقلوا لنا بالصوت، عبر «وشيش» إذاعي متذبذب، حسب حالة الطقس وصفاء الجو، ومناوبة الرعد في سماء المنطقة، عن آخر اجتماع عربي في الجامعة العربية، وكيف كنا نرسم في عتمة الدار خيالاً للانتصار، وكيف يطلق إبريق الشاي فوق المدفئة صهيلاً عفوياً، عندما يؤكد العرب ضرورة كسر الحصار.. لو أن «دقات الساعة»، التي كانت تسبق المواجز الإخبارية التي سمعتها، قمت بجمعها وصنعت منها منبهات جديدة لأجيال أدمنت الانتظار.. لو أن الأصوات التي نامت على سرير ذاكرتي تستحيل شيئاً ملموساً، خيوط صوف، على سبيل المثال، لصنعت منها أجمل راية للانكسار..

كنا عندما نسمع كبار السن يقولون بأسف بعد كل نشرة: «ضاعت فلسطين» كنا نتخيل فلسطين «طفلة ضاعت في وطن»، ولم نكن نعرف أن فلسطين «وطن ضاع في طفلة».. كنا نحلم وتفقأ فقاعات الحلم أظافر الأسلاك الشائكة، كان الفرح أرجوحة ما أن تصل إلى مداها الأقصى حتى تعود بنا إلى نقطة الحزن العربي الأولى.. فالذاكرة العربية هي الذاكرة الوحيدة الممتلئة قبل التخزين.. وهي بحيرة الأنين التي يغسل بها الفارس العربي وجهه، ويسقي منها فرسه..

يقولون إن العلمَ استطاع أخيراً تطوير شريحة تشبه الدماغ البشري، ذكية ومعقدة، وتحفظ أكثر من أربعة ملايين عملية، أرجوكم إليّ بها الآن مهما كان الثمن.. تعبت من هذا الدماغ المحشو بمعارك خاسرة ككتاب تاريخ، كما أنني لا أريد، عندما تخرج الروح على وسادة الفراق، أن يرافقها دخان أسود ورائحة بارود.. كزفير البندقية بعد إطلاق النار.. أنا راضٍ بأضوية خاطفة فوق عيني وعبارة: game over»»!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر