مزاح.. ورماح

الوطن المطار..

أحمد حسن الزعبي

لأن بيتي يقع بين العاصمتين - فالمسافة إلى عمّان كانت المسافة نفسها إلى دمشق - قررت ذات رحلة أن أطير إلى دبي من دمشق.. حزمت حقائبي صباحاً، أوقفت سيارة أجرة.. وانطلقنا نحو مطار الشام.

كان ذلك قبل عشر سنوات تقريباً.. نوافذ السيارة مقفلة، فلسعة البرد الصباحية تزيد من قشعريرة الغربة، في جيبي العلوي جوازات السفر، وبفمي مرارته.. ما إن خرجنا من «درعا البلد» حتى فردت سورية رداءها الأخضر.. حقول لا تنتهي مسطّرة بالزروع كدفتر تلميذ مجتهد، جرارات زراعية تهرول على يمين الشارع، تحمل فلاحين مكافحين وسيدات كادحات، أسراب من الحمام البلدي تطير سوياً وتحط سوياً على بذار طازج تساقط للتو من يدّ مزارع «حوراني».. بيوت بعيدة يخرج منها دخان الأقران المحلية.. دكاكين بدائية، صبي على دراجة يحمل «فرشة من الكعك» تجوب الأحياء، سيارات قديمة من غير أبواب تنقل ركاباً بين القرى البعيدة، كان الوطن كلّه يشبه فلاّحيه.. لا يهتم بالمظهر كثيراً بقدر ما يهتم بالإنتاج.

الآن وأنا أتابع القصف الروسي، والقصف الفرنسي، والقصف الأميركي، والقصف الإيراني، والقصف الداعشي.. أحن إلى سورية الأم.. سورية الصافية كعين يمامة، المسالمة كصوت عصفور، الناعمة كحرير حلب، أحن إلى سورية الساهرة على جبل قاسيون وعلى كتفها فلسطين وشال.. أحن إلى مناظر الحميدية وباب تومة وكل الشوارع التي كانت تسكب السهر على طاولة الليل.. أحن إلى سورية الصوت والصورة من غير دماء أو انفجار أو استباحة.

الآن معظم إصابات السوريين ليست في رؤوسهم، كما يشاع، وإنما في أقدامهم.. لكثرة ما ينظرون إلى سماء الوطن وفرز محركات المقاتلات: هذه تحالف، هذه تخالف، هذه «روسية».. فيتعثرون ويسقطون أرضاً ويبكون على ما يعشقون.

سورية الآن؛ بمجدها، بتاريخها، بنضالها ضد الاستعمار صارت «بوفيه مفتوحاً» للاستعمار.. سورية الآن مجرّد مطار دولي كبير.. تستقبل من باب القادمين من موسكو وباريس وواشنطن ولندن وطهران من غير «فيزا» أو تصريح، وتودّع على باب المغادرين شهداء وقتلى ولاجئين يبحثون عن وطن بحجم ضريح!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر