5 دقائق

تقدير الشهداء

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

كم هو نبيل أن لا ننسى الفضل لأهل الفضل؛ فذلك دليل الكمال الخُلقي في الوفاء لمن أسدى معروفاً لقومه وبلده، وكثيرون هم الذين يفعلون الخير للغير من الأهل والأقارب في الأوطان، كل بحسب مواهبه التي وهبه الله تعالى إياها، والمرء مدني بطبعه لا يقدر أن يعيش لنفسه، بل يعيش لغيره أكثر مما يعيش لنفسه، وإذا كانت حياة الناس كذلك فالأولى أن يعيش المرء للغير بما يخلد ذكره ويجعله أسوة لغيره، وليس هناك أجلُّ أو أعظم من أن يقدم مهجته من أجل دينه وأهله ووطنه، فذلك ما يقف عنده كثير من أهل العطاء، فإن النفس عزيزة والحياة طيبة، والدنيا دار سعادة في جملتها، فمن ذا الذي يضحي بنفسه وحياته ودنياه إلا ذلك الذي كان همه كبيراً، ونفسه أبيَّة، وكما قال الوليد بن مسلم:

يجود بالنفس إن ضنَّ البخيلُ بها ... والجودُ بالنفس أقصى غاية الجود

ها هم الذين جادوا بأنفسهم حماية للوطن، وذوداً عن حياضه، ورفعة لشأنه؛ يخلَّدون بذكرى «يوم الشهيد».

نعم إن الجود بالنفس أقصى ما يمكن أن يجود به الناس، فإن الجود بالمال مخلوف، وبالعلم يزيد، وبالوجاهة لا تنقص، لكن الجود بالنفس لا يستخلف في حياة كهذه، لكنه مستخلف في حياة هي أجلّ وأعظم وأبقى وأنفع وأمتع من حياتنا الدنيا، إنها الحياة التي أعدها الله تعالى للشهداء، والتي تسرح فيها أرواحهم في جنة الخلد حيث شاءت، فهم في رَوح وريحان، ورب غير غضبان {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي الحياة الدائمة.

ليست الحياة فقط أن تعيش بجسدك في هذه الحياة، فإن الحياة أوسع من ذلك، بل هي أن تعيش بذكرك وفَخارك بين الناس، فتكون حياً في الأجيال وعلى أمد الدهور والأزمان، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ.

وها هم الذين جادوا بأنفسهم حماية للوطن، وذوداً عن حياضه، ورفعةً لشأنه؛ يخلَّدون بذكرى «يوم الشهيد» الذي جعلته القيادة الحكيمة تخليداً لمآثرهم، وتسطيراً لبطولاتهم، لتكون دروساً للأجيال، فما أروع أن يعيش المرء بذكره الطيب العطر في هذه الدنيا التي هي عنوان الآخرة بخيرها وشرها!

إن يوم الشهيد ليس لأن نبكي على فقد من نحبهم، فإنا قد نُهينا عن أن نجدد الحزن، ولكن لنذكر أهل الفضل بفضلهم، ونجعل من حياتهم دروساً نعيش بها في التضحية والفداء، ونعلم أن الشهادة ليست موتاً بل هي حياة وهي فخار، وكما قال الحكيم القديم:

ليس من مات فاستراح بميْتٍ …

إنّما الميْت ميِّت الأحياء

نعم إن من يعيش ولا يجعل لنفسه أثر خير ونفع يذكر به؛ فهو في عداد الموتى، وهؤلاء عرفوا كيف يحيون من أخصر الطرق فوجدوا الحياة في الشهادة، وكما قالوا: اطلب الموت توهب لك الحياة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر