أبواب

كيف تحدث التراجيديا؟

يوسف ضمرة

لا يستطيع أحد تحويل العادي والساكن إلى تراجيدي، ما لم يكن هذا العادي حاملاً بذور تراجيديته في أحشائه.

رجال غسان كنفاني في الحقيقة لم يموتوا، بل وصلوا إلى الكويت، وبدأوا حياة جديدة هناك، فما الذي فعله كنفاني لتتحول الواقعة النمطية التي تكررت في الخمسينات من القرن الماضي، إلى سقوط تراجيدي مدوّ؟

التراجيديا تتطلب العنصرين أو القطبين: القوة والضعف، الشجاعة والجبن، الطموح والقناعة.


التضحيات التي يقدم عليها بعض أبطال القصص والروايات لأجل حلم أكبر، لا يصح بالنسبة لأصحابها أن تذهب هدراً.

الواقعة في حد ذاتها، ومعزولة عن سياقها، تحمل البذرة التراجيدية. فأن تحشر بضعة رجال في خزان ملتهب تحت شمس حارقة، أمر ليس عادياً، ولو أصبح في مرحلة ما من تاريخ الشعب الفلسطيني أمراً عادياً، يتناقله الناس بما يحمل من دلالات.

قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بكنفاني وما فعله، أود أن أطرح سؤالاً ثانياً يتعلق بالتراجيديا الإغريقية؛ فما الذي فعله «يوروبيدس»» لكي يحول قصة حب مشوقة إلى تراجيديا صارخة؟

هذا السؤال ينطبق على أعمال خالدة في تاريخ الأدب العالمي «آنا كارينينا»، و«مدام بوفاري»، و«شيطنات الطفلة الخبيثة»، و«الجريمة والعقاب»، إلخ.

ينبغي لنا الانتباه إلى أن السقوط التراجيدي كما سماه الناقد يوسف سامي اليوسف، لم يأت فجأة أو بغتة من دون إشارات مسبقة، فعند يوروبيدس مثلاً، نعرف أن ميديا حين أحبت جيسون وهربت معه، خالفت رغبة أبيها وإخوتها، لكي تحقق حلمها المفترض مع جيسون، وفي حال آنا كارينينا هجرت آنا زوجها وابنها لتحقيق الغرض ذاته، وكذلك الحال في الأعمال الأخرى، أي أن هنالك مقدمات للسقوط التراجيدي تدل عليه. فالتضحيات التي يقدم عليها بعض أبطال القصص والروايات لأجل حلم أكبر، لا يصح بالنسبة لأصحابها أن تذهب هدراً، وإلا فإن السقوط التراجيدي يكون حاضراً ومستعداً لاستقبال مثل هؤلاء الأبطال في ميدانه.

الرجال في الشمس خاضوا مغامرة مروعة، وهجروا أهلهم وأحبتهم في سبيل تحقيق حلم ما ـ ربما لا يكون حلاً صحيحاً أو صائباً ـ وحين اصطدمت هذه التضحيات بالواقع المر، قتلهم الروائي بدم بارد.

ميديا التي تخلت عن أهلها ومكانتها الاجتماعية العالية، لم تحتمل فكرة أن كل ما فعلته قد تكون نهايته ذبول حب جيسون لها، ووجود منافسة لها في عالمه، فقامت بمعاقبته ومعاقبة نفسها. فبينما تكتفي آنا بعقاب نفسها «ظاهرياً» بالانتحار، فإن ميديا أرادت أن تشهد آثار فعلها التراجيدي على جيسون لتستمتع بالشماتة، وتشعر بالنصر؛ قتلت ميديا ولديها لأنها تدرك مدى حب جيسون لهما. لم تفكر في أن هذين الولدين هما ولداها أيضاً، لم يكن هذا مهماً في السياق التراجيدي، لأن الأهم كان حاضراً، وهو عقاب جيسون.

في «شيطنات الطفلة الخبيثة» للبيروفي ماريو بارغاس يوسا، كان الشرط التراجيدي موجوداً في العشيق الضعيف ريكاردو، فلولا هذا الضعف أمام شخصية المرأة متعددة الأسماء، لما تمت عناصر السقوط التراجيدي، وهذا الضعف، هو «الشغف»؛ شغف ريكاردو بالمرأة، وحبه غير النمطي كذلك، الذي يجعله قادراً على مسامحتها والصفح عنها كلما اكتشف واحدة من مغامراتها مع رجل آخر.

وكما يبدو، فإن التراجيديا تتطلب العنصرين أو القطبين: القوة والضعف. الشجاعة والجبن. الطموح والقناعة بما هو ملك اليد. أبوالخيزران والرجال المغامرون. ريكاردو والمرأة. ضعف جيسون أمام شغفه بولديه. ضعف شارل بوفاري أما حماقات إيما.... هل هذا وارد نقدياً؟ ربما نعم، وربما لا، لكنها فكرة طرأت، ولم أشأ لها أن تمر من دون أن أطرحها على القراء والمتابعين والأصدقاء والمهتمين بالأدب.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر