أبواب

..استذكارات مبكرة

خليل قنديل

نستذكر قبل حضور الشيب وتقوس الأطراف وارتعاشة الأيدي وانحناءة الظهر كل هذه الانكسارات، التي عبرناها في قسوة العمر وغدر الأيام، كي نتعظ قليلاً من ضربات العمر وانكسارات الروح! ونحاول كأطفال حمقى أن نسترد اتزاننا الذي سرقته أعمارنا في لحظة غباء، ومنحته للغيب الذي يظل يتربص بحمقنا، كي يقوم وكعادته بسرقة أعمارنا منّا، كما يفعل في كل مرّة كي ينثرها في الهباء!

«نستذكر، في زحمة الإقبال على الحياة، طفولتنا التي كانت تطفح بالشغب وبالمحبة، ورغبتنا المستميتة في توقيف الحياة عند شهوة التذكر».


«ها نحن نمتلك عافيتنا التذكرية، ونعيد كتابة الذاكرة من جديد، ومن ثم نبدأ في إحصاء الخسائر والانكسارات، وما أكثرها‍».

نستذكر أيضاً ارتباكنا المزمن أمام الخسارات المتلاحقة، وعن سر هذا الغباء الصبياني والطفولي، الذي يرتسم فوق ملامحنا عند كل خسارة مباغتة، كالكارثة التي لا تحتمل.

ونستذكر أيضاً فرح التفاصيل الصغيرة، الذي كانت تشعله في عروقنا صبية الحي التي توجناها في وقت مبكر سيدة القلب بلا منازع، وجعلناها تحرث قلوبنا الغضة صبح مساء، ولا نغفو إلا إذا غابت في النوم الصبياني العميق.

ونستذكر الاحتكاكات المبكرة التي كانت توقظ في أرواحنا شبق دهشة الملامسة وفتنة الاحتكاك، تاركين تلك الاحتكاكات ترسم لذة التماس واحتمالات العناق المباغت، الذي يقرص الدهشة في الروح، ويجعلها تنتفض مذعورة من هجمة التغييب والغياب!

ونستذكر قطاطيم الدار وتوزعهم في جنبات البيت، حسب المحبة والعقاب الذي كان مشرعاً ليل نهار كسيف مصلت! ونستذكر الجدة حارسة البيت المزمنة، وذلك الدعاء الذي كانت تلهج به صبح مساء، كي يغفر الرب لأبي ويمنحه بعض الرضا! وعلينا بالطبع تذكر فراشها الخفيف الذي تحول بين يوم وليلة إلى جنازة عابرة للكون!

ونستذكر أيضاً في زحمة التذكر قائمة العائلة وباقي التفريخات اللاحقة، الزوجات اللواتي حضرن إلى البيت بدعوى النسب، والأطفال الذين حضروا إلى بيتنا كمخلوقات بعضهم استعجل الذهاب إلى الموت، والبعض الآخر تريث حتى النفس الأخير.

ونستذكر في زحمة الإقبال على الحياة طفولتنا التي كانت تطفح بالشغب وبالمحبة، ورغبتنا المستميتة في توقيف الحياة عند شهوة التذكر، وجعل كل شيء قابلاً للعناق، حتى نمتص رحيق العمر مرة واحدة!

نستذكر طفولتنا التي كادت أن تكون عابرة، ونحن نتهجى لذاذة طفولتنا الأولى، ونحن نعمل على إبطاء دورة التسارع في عجلة العمر، أو ونحن نحاول أن نلقي القبض على ذلك العبق الذي يتركه في الأنف طعم الشعر المبلل بصابون الاستحمام الساذج والعبق النائم في الصابون!

ها نحن نمتلك عافيتنا التذكرية، ونعيد كتابة الذاكرة من جديد، ومن ثم نبدأ في إحصاء الخسائر والانكسارات، وما أكثرها‍!

ها نحن نبدأ ببث شكوانا، ونستغرق في لواعج التذكر.

نتذكر البيت الأول والشرفة الأولى تلك التي تملك طلتها الأولى والمدهشة وخبايا الذاكرة الأولى.

نتذكر الاستلقاء الشقي للشارع فوق الاسفلت، وتعب الأفق الشارد من حصارات الأمكنة، ونبدأ صلاة الشكر والتعب.

ونبدأ رحلة الاغتسال من التذكر ووحم الماضي!

مثلما نبدأ أيضاً بتعلم محاشاة أفخاخ التذكر!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر