أبواب

في تداخل الأجناس الأدبية

يوسف ضمرة

حتى اليوم، لاتزال هنالك غشاوة على عيون بعض الكتاب والشعراء، تجعلهم غير قادرين على التمييز بين الأجناس الأدبية. بالطبع، هنالك دعوات رافقتها محاولات، لما يسمى تداخل الأجناس.

المقصود ـ كما فهمت ـ من تداخل الأجناس، هو تلك الكتابة التي تستعصي على التجنيس التقليدي. ويستشهد الكثيرون هذه الأيام بقصيدة النثر، وبالقصة القصيرة جداً.

ما ينبغي لنا البوح به والتشديد عليه، هو أن القصة تظل قصة، سواء كانت قصيرة أو قصيرة جداً. وعدد الكلمات لا يغير في التجنيس، ولا يحتاج إلى تسمية جديدة. فلم يقل القرآن الكريم مثلا إن سورة «المسد» (تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد) تدخل في باب القصة القصيرة جداً. فالله تعالى يقول في كتابه العزيز«نحن نقص عليك أحسن القصص». وهكذا تصبح سورة «يوسف» قصة، وسورة «المسد» قصة.

بإيجاز، فإن تداخل الأجناس أمر مشروع وصحي، في ما لو تحقق من خلاله تطور فني ما. أما مجرد حشر القصة والشعر معاً من دون مبررات فنية، فهذا ليس سوى إصرار على مخالفة السائد والخروج عليه. ومخالفة السائد الحقيقية ينبغي لها أن تحمل في داخلها ما يبررها، لا أن تكون مجرد قرار اعتباطي لا قيمة له.

تداخل الأجناس أمر مشروع وصحي، في ما لو تحقق من خلاله تطور فني ما.


كل ما يمكن أن يكون جديداً بحق هو ما يحمل في طياته تطوراً فنياً وإضافة جمالية ومعرفية في آن واحد.

إن أول ما يفاجئ القارئ في كثير من هذه الكتابات هو الخلط بين لغة الشعر ولغة النثر. وكلتاهما تختلف الواحدة عن الأخرى بالضرورة. ففي الشعر تقول «سنرقّص الساحة/ ونزوج الليلك» لكنك لا تقول ذلك في القص. وفي القص تقول «هبت ريح باردة من ضفة النهر» وهي جملة إخبارية، تفيد بوقوع شيء ما. وهي لا تقال في الشعر كما هي، لأنها تظل نثراً لا شعراً، بسبب وقوفها على خبر محدد، من دون إيحاءات أو تأويلات. لكن الكلمات التي تتكون منها الجملة، كلها قابلة لأن تصبح شعراً في ما لو استخدمت في صياغة أخرى. أي عن صياغة اللغة وبنيتها وما تحمله من دلالات وإيحاءات هي التي تحدد مقدار الشعرية في اللغة. وصياغة اللغة هي الفرق الأول والرئيس بين لغة الشعر ولغة النثر.

عندما يتحدث البعض عن تداخل الأجناس، فهو يرمي إلى الخروج على نمطية التجنيس. لكن التجنيس ليس قراراً ذاتياً أو رغبة شخصية. فهنالك ظروف موضوعية كثيرة تلعب دوراً في هذا الأمر. فأنت لا تستطيع اليوم أن تكتب على غرار ما كتب هوميروس أو فرجيل. تلك كانت رواية شعب وقصة أمة وربما رقعة كبيرة من تاريخها، على الرغم مما صاحبها من أسطرة. فالأسطورة في تلك المرحلة كانت مفردة من مفردات الحياة اليومية للناس، ولم تكن تخص أحداً دون سواه. أي إن عصر الملحمة، والظروف الموضوعية والتاريخية التي أنتجتها، قد انتهى. وهو ما ينطبق إلى حد كبير على المأساة الإغريقية، التي تلعب الأسطورة فيها دوراً رئيساً، وبطلاً يصعب تجاهله عند أي منعطف في الكتابة.

ليكن هنالك تداخل أجناس، ولتكن هنالك قصة من سطر أو سطرين، ولتكن هنالك قصيدة تقوم على الحكاية كما هي القصة نفسها. ولكني فقط أقول إن كل ما يمكن أن يكون جديداً بحق، هو ما يحمل في طياته تطوراً فنياً وإضافة جمالية ومعرفية في آن واحد.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر