أبواب

اجتراح الدهشة

خليل قنديل

مازلنا نمتلك عافية المشاهدة واجتراح المشهد القادر على التخليق، ومازلنا نحاذر الوقوع في العادية كي نظل عصاة على المضغ والاجتراح.

نفعل هذا ونحن نعي أن طأطأة الرأس والقبول بالتخلي عن التحرش يعني ببساطة أننا اقتربنا من موتنا المبكر.

كلما استلمنا مشهداً جديداً نحاول أن نعيده إلى تكويناته الأولية التي تصل أحياناً إلى حد التأتأة في النطق واستمراء الغباء.

مازلنا نمتلك عافية الكشف عن كل تعلات وجودنا دون أن ننبهر بالعثرات ومشاكسة العقبات.

ونحن نعرف أن الشرفة النظيفة التي تطل منها الجارة المندهشة بفتوتها وبتطاير خصلات شعرها فوق جبينها الوضاء إنما تفعل هذا كي تتحرش بالسكون الذي يظل يغلف تلك الشرفة، مُعلنة أن ضجة حضورها المباغت في وسط الشرفة يربك الهواء، ويجعل الأعناق تظل مشرئبة نحو سماء حضورها وسط الشرفة، وأنها منذ إطلالتها المباغتة صارت صديقة السماء والغيوم، لا بل صارت عصية على القبض والملامسة.

ونحن نعرف أيضاً أن الوقوع الدائم في لذاذة تذكر الماضي واستلال الحلم من جنباته يعني ببساطة تخلينا المُبكر عن حلمنا في اجتراح مشهدنا الوجودي، الذي يدلل على عافية المشاهدة، والقبض على تربصنا بالمشهد الذي يفجر عافية المشهد، ويقوده إلى صبيانيته الأولى، لهذا ترانا نقبض على مشاهدنا «الكاشفة»، متسلحين بجمر الأصابع وارتعاشة الروح.

ونحن نعرف أنه رغم هذا العتي في العمر الطاعن مازلنا نقبض على دهشتنا الطفولية في المشاهدة، وتعلم مهارة أننا كلما استلمنا مشهداً جديداً نحاول أن نعيده إلى تكويناته الأولية التي تصل أحياناً إلى حد التأتأة في النطق واستمراء الغباء.

ونحن مازلنا نمتلك القدرة على اجتراح المشهد المزروع بحراس الدهشة، الذين هم تحديداً من يمنحنا تلك اللعثمة في النطق، ولذة النطق الصبياني في تسمية الحالات. وذاك الارتباك الطفولي الذي يجدد قدرتنا على النطق، وإعطاء الأشياء والحالات مُسمياتها بتلك الارتباكة الطفولية الجميلة والمدهشة.

ونحن وحدنا من تعلم قدرة الانسحاب من فهاهة الحاضر واعتياديته كلما حاصرنا هذا الضجر الكوني الذي لا يبشر بالخير، وإنه وحده من يجعلنا نتلمس فروة رؤوسنا كي نقوى على اجتراح أحلامنا من جديد، وبعافية أقوى وأكثر عافية وصلابة.

ونحن نعي ضرورة تعويد أرواحنا على محاشاة الوقوع في براثن الرتابة، التي كثيراً ما تهدد بتقليم مخالبنا الروحية وتهددنا بالكساح الروحي.

وإننا تعمدنا في تعويد أرواحنا وشحذها بطاقة القدرة على العودة إلى المكونات الأولى لكل حالة من الحالات كي نلقي القبض على أس الحالات المباغتة، ومعرفة كل حماقات التكوين.

ونحن مازلنا نمتلك عافية الكشف عن كل تعلات وجودنا، دون أن ننبهر بالعثرات ومشاكسة العقبات لنا بكل تلك القسوة. انها دُربة المتابعة وكشف الغطاء عن كل تلك السماكات التي اعتادت على إرباك أرواحنا.

ونحن نعلم أن مغادرة قوانا في الرؤية والمشاهدة تعني ببساطة خساراتنا الفادحة لقدرتنا على الكشف والمتابعة، إن الأمر ببساطة يعني دربتنا على الانسحاب المبكر من هيلمان الحياة ومكرها الدائم في الاستيلاء على قوانا الروحية.

وأعترف بأنني حاولت وكي أريح رأسي أن أنسحب من حمى المراقبة، لكني فوجئت بسمك الحماقات التي تغلف روحي وتعيق قواي في المشاهدة والرصد! وأعترف بأنني حاولت عبر سنوات عمري أن أنسحب من هذه اليقظة كي أريح وأستريح، لكنني كنت ألاحظ أنني، وبعد دقائق على هذا الاعتذار، أرى سماكات غبية تغلف روحي وحياتي!

لذا كان لزاماً عليّ أن أحافظ عن حصيلتي في العمل على تدريب عيني على المشاهدة الحافرة، وممارسة فعل الحفر بالعين.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر