أبواب

«كبرت ونسيت أن أنسى»

محمد حسن المرزوقي

لا أظن أن أحدًا منا لم يسمع بعبارة «زمن الرواية»، أو العبارة الأخرى «موت الشعر»، إشارة الى هذا العصر الذي أصبحت فيه الرواية الجنس الأدبي الأغزر إنتاجاً، والأكثر شيوعاً وقراءةً مقارنةً بالشعر!

شخصيًا لا أؤمن بأن فناً يمكن أن يزيح فنًا آخر أو ينهي وجوده بهذه البساطة، ولا أؤمن كذلك بهذا الطلاق المفتعل بين «الرواية» و«الشعر»، فالرواية في صورها الأولية المتمثلة في السير والملاحم صيغت بالشعر وحده، فلولا الشعر لما كانت الرواية، فهو الرحم التي انبثقت منها الآداب كافة.

«في الأزمات التي تعصف بعصفور الشعر، لابد لنا إذاً أن نشعر بفرح غامر، عندما نجد رواية ممتازة كهذه تمسح على ريشه، وتعيد إليه حنجرته المنهوبة».

«زوج فاطمة، الذي سمح لها بكتابة الشعر دون نشره، هو رمز لكل مجتمع شرقي يرى أن صوت المرأة عورة، وصوت الشاعرة فضيحة».

إذ ليست للشعر بدايات محددة عبر ملحمة الوجود الإنساني، كما لا تبدو له نهايات قريبة/بعيدة، كما يحاول التنبؤ بذلك بعض النقاد كالدكتور عبدالله الغذامي. ويبدو أن بوادر انبثاقه كانت على شكل دموع وآهات وغمغمات وترانيم، بغية التعبير عما تجيش به النفس والروح من انفعالات وأشجان وأحلام.

كان الشعر ولايزال وسيبقى على الدوام الوسيلة التي لا خيار في استخدامها، من أجل كسر وطأة الواقع الصلب، وتليين الفداحات المختلفة التي تلم بالإنسان.

لذلك تأتي أهمية رواية بثينة العيسى الأخيرة «كبرت ونسيت أن أنسى» من كونها تنتصر للشعر، أو بصورة أدق تعقد مصالحة بين الشعر والرواية، ليس على مستوى اللغة فحسب (لغة الرواية شعرية بحتة لدرجة تشعر بأنك في بعض المقاطع تقرأ ديواناً شعرياً لا رواية)، بل حتى على مستوى القصة.

للوهلة الأولى، يبدو موضوع الرواية تقليديًا ومكرّرًا، على غرار الكثير من القصص والحكايات التي سُردت عن سلطة الرجل واضطهاده المرأة، لكن ما أن تنفذ إلى العمق حتى تكتشف الرموز التي تطل برأسها بين الحين والآخر. إن الشخصية الرئيسة في رواية العيسى ليست «فاطمة» الطفلة اليتيمة، بل هي الشعر الذي لولاه لماتت فاطمة اختناقًا!

تقول العيسى على لسان فاطمة «لم يكن اليتم هو وفاة والديّ، اليتم الحقيقي هو أنني لم أمت، وأن صقر لم يمت أيضًا، فقد بقي في العالم ليصير جلادي، ليفتش حقيبتي بحجة البحث عن علكة، ويتفحص هاتفي بحجة البحث عن رقم هارديز...إلخ».

ألا يذكركم هذا الكلام بالكلاب البوليسية التي تتشمم قصائد الشعراء بحثاً عن دليل لإدانتهم بتهمة زيادة مساحة الجمال في هذا العالم؟

في فصلٍ آخر تحكي فاطمة عن السبب الذي دفع أخاها لتمزيق دواوينها الشعرية، فتقول «في ذلك اليوم أقام صقر الدنيا ولم يقعدها، فقد عثر في كتاب أقرأه على كلمة نبيذ. كان ذلك كافيًا في نظره لجلدي أربعين جلدة».

إن صقر، أو الجلاد، ليس الأخ الكبير فحسب، بل هو رمز أيضًا لكل سلطة تلاحق طائر الشعر لاستئصال حنجرته!

أما زوج فاطمة الذي سمح لها بكتابة الشعر دون نشره، فهو رمز لكل مجتمع شرقي يرى أن صوت المرأة عورة، وصوت الشاعرة فضيحة!

من خلال هذه الأزمات التي تعصف بعصفور الشعر، لابد لنا إذاً أن نشعر بفرح غامر عندما نجد رواية ممتازة كهذه تمسح على ريشه، وتعيد إليه حنجرته المنهوبة!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر