أبواب

هذا الجدب.. وتلك الحياة

خليل قنديل

هكذا تدريجياً أخذت الحياة تكشف عن وجهها وملامحها الكريهة، وبدأت بتدريبنا على جلافتها وانسحابها من مساحة العناق.

لم تكن الحياة بخيلة على هذا النحو أبداً، وأنا هنا أتحدث عن المساحات اللاحبية التي كانت تقدمها لنا الحياة كلما حككنا رؤوسنا، أو هبطت في أنوفنا رائحة، أو كلما لامست أجسادنا تلك الملامسة، واشعلت في حبيبات الارتعاشة والقشعريرة.

«كانت الحياة حينما نغضب عليها تنسحب من أحضاننا.. لكنها لا تغادرنا».

«الأمر صار يختلف كثيراً، فالحياة التي كانت مطواعة صارت تغادر حنو عناقنا لها وتختفي».

كما أتحدث عن سرعة التخليق التي كانت تتشكل فيها الصور والرؤى كلما طرقنا بوابة الحياة، ولم تكن الحياة تمتلك مثل هذه السرعة في إدارة الظهر والتخلي عنّا بمثل هذه القسوة.

الحياة إذن تغضب هي الأخرى، وتدير ظهرها بقسوة أنثى لئيمة، ويكون من الواجب علينا الاستلقاء أرضاً والوقوع في فخ الرجاء والتمني كي تعاود ممارسة حنوها علينا. كانت الحياة حينما نغضب عليها تنسحب من أحضاننا، لكنها لا تغادرنا، بل تبقى على مقربة من صدورنا وأعيننا، الأمر صار يختلف كثيراً، فالحياة التي كانت مطواعة صارت تغادر حنو عناقنا لها وتختفي، وتجعلنا نبدو كالرضّع الذين يفتقدون أمهاتهم على نحو مباغت.

لم تعد هناك بيوت نحتمي بها ونراهن على حنوها كما كنّا نفعل من قبل، ولم يعد حوش الدار ببواته الأمية، ولا تلك النوافذ التي تبعثر قاماتنا الصغيرة المطلة منها. ولم تعد اطلالتنا على ذاك الزقاق النحيل قادرة على نقلنا إلى شعاب المشهد وتعرجاته، ولذة الاختفاء بين حوافه، ولم تعد بنت الحي الصبيّة المزمنة قادرة على إطلاق تلك التنهيدة التي تعبر عن الحسرة وفقدان الذكر وخسرانه.

وأنا أتحدث عن تلك الحياة التي كانت تجعل الصبي يدق بكعب حذائه إسفلت الطريق، ليجعل جسده ينتفض برغبة الرقص الزوربوي ويفرد كطائر تعلم التحليق للتو. ويرى جسده وقد بحت عروقه من الصهيل والغياب في نشوة الصراخ والرغبة الملحة في الاستبسال ومعانقة الحياة.

أتحدث عن تلك الكهرباء التي كانت تنتشر كالقشعريرة لحظة المشاهدة النادرة وكشف الستر عن المعاني، وذاك التعرق المطلسم في اليدين.

وأنا أتحدث عن تلك الأنوثة الغامضة التي كانت تبشر بها الحياة وهي تقبل علينا بذاك البهاء النادر، كي تجعلنا نتمغنط فرحاً وحباً ونحن نرى تلك الحياة وهي تقبل علينا بحنو يشبه حنو الأمهات اللبونات.

وأنا أراقب نفسي وأنا أهتف صبح مساء، وأنا أنادي على الحياة طالباً منها المعذرة والصفح عن كل حماقاتي التي كانت لا تعي حرقة فقدان تلك الحياة. واسمع صوتي يهمس قائلاً: أيتها الحياة لا أريد شيئاً سوى قبول اعتذاري، أيتها الحياة افسحي لي الطريق وامنحيني الأمان كي آتيك طائعاً مثل طفل وجد أمه بعد أن فقدها وأضاعها في متاهة الطريق.

أيتها الحياة امنحيني الأمان كي أتقدم بقائمة اعتذاراتي إليك.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر