أبواب

ليس على الكاذب حرج

محمد حسن المرزوقي

جاء في الأساطير الإغريقية أن الحقيقة عرضت نفسها عارية على الناس، فكادوا يرجمونها بالحجارة، ثم فتحت دولاب ملابسها وغطت عريّها بكل قطعة ممكنة من الملابس، فأقبلوا عليها!

أي أن البشر، وفقًا لهذه الأسطورة، لا يحبون الحقيقة والصدق مهما ادّعوا ذلك، ويفضلون عليهما الكذب والخداع حتى إن ادّعوا عكس ذلك!

«مشكلة العقل العامّي أنه لا يرى إلا اللونين الأبيض والأسود، لذلك يقسّم القيم إلى متضادين لا يلتقيان: كالخير والشرّ، العفّة والرّذيلة، والعدل والظلم».

جرب أن تقول، لزوجتك إن لم تكن مقتنعًا بهذا الكلام أو إن كنت تنوي إنهاء علاقتك بها، بأنها تبدو أكبر عمرًا أو أقل جمالاً مما كانت عليه وقت ارتباطك بها!

بل يكفي أن نعلم بأن أول عبارة يتفوه بها من يلقي به حظه العاثر في السجن هي «أنا برئ والله!»، حتى لو كان أعتى المجرمين، لندرك بأن أنّ الكذب هو أوّل ما يفكّر به الإنسان وقت الأزمات !

رغم أننا نردّد كثيرًا بأن حبل الكذب قصير، إلا أننا لا نتردّد عن التعلق بأطرافه متى ما شعرنا بالحاجة لذلك!

هنا ينبت سؤال ملحّ وخادع: هل الكذب هو شيء سيء في جميع الأحوال؟ ستكون الإجابة البديهية «نعم». ولكن، لو فكرنا مليًا، سنجد بأن الكذب هو الشيء الوحيد الذي يساعدنا على البقاء صامدين في هذه الحياة، وتحملها. فكروا في ما تفعلونه وستجدون بأن الكذب، بمختلف ألوانه، يحيط بكل ما تقترفونه!

يقول الروائي الفرنسي غريغوار دولاكور إن أعظم ثناء حصل عليه بعيد كتابته رواية «لائحة رغباتي»، كان عندما تقدم إليه رجل أثناء حفل توقيع وقال له بأن الرواية ساعدته على التعامل مع والده المصاب بالزهايمر!

ففي الرواية، تقوم البطلة بممارسة الكذب على والدها المصاب بالزهايمر، الذي لا يعلم من هي ومن هو بعد ست دقائق (وهي المدة الزمنية التي يستطيع خلالها الاحتفاظ بذكرياته). ففي كل ست دقائق تختلق له حياة جديدة يكون هو بطلها، فتارة هو مخترع عظيم حاز جائزة نوبل، وتارة هو بطل قومي ينظر له العالم بإعجاب، وهكذا. ولولا الكذب لما استطاع والدها مواصلة الحياة أو لنقل بأن الكذب كان الوسيلة الوحيدة أمامه لمواصلة الحياة بذاكرة مثقوبة!

مشكلة العقل العامّي أنه لا يرى إلا اللونين الأبيض والأسود، ولذلك يقسّم القيم إلى مَرَجَين لا يلتقيان: كالخير والشرّ، العفّة والرّذيلة، العدل والظلم، ويؤمن تبعًا لذلك بأن الصدق فضيلةٌ في جميع الحالات، والكذب رذيلةٌ تحت كل الظروف، بينما الواقع يثبت أنّ الأمر أكثر تعقيدًا من هذا التّقسيم.

يقول الدكتور علي الوردي إن القيم أمور اعتبارية، لا تتعلّق بما هو أفضل أو أسوأ، بل بما هو أنسب وأصلح، وهذه «الأنسب والأصلح» غير مطلقة أبدًا، إذ تخضع لمقاييس وتقديرات تتغير بتغير الظروف. لذلك، لا أعتقد بأن الكذب أقضل من الصدق أو العكس، بل إنّ كلا الصّفتين ضروريّتان ليصبح الإنسان إنسانًا، ويتمكن من التعامل مع الحياة بكافة تقلباتها، ذلك أنّه، أي الإنسان، خليطٌ من كل لون!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر