أبواب

أبناء الحروب

محمد حسن المرزوقي

للحرب حقيقة واحدة، مؤلمة ومرعبة في آنٍ، والوصول إلى هذه الحقيقة أمر ميسر وسهل، لكن من أين يمكن الحصول على قدر كافٍ من الجرأة لمواجهة هذه الحقيقة؟!

للحرب وجه واحد، ممعن في القسوة والبشاعة، لكن من أين يمكن الحصول على قدر كافٍ من الجرأة للنظر في عيني الحرب مباشرة؟!

تمد لي الحرب التي تلتهم سورية لسانها كل يوم، لتخبرني بأنني جبان بما يكفي، كي أخشى مجرد مصافحتها!

«تمد لي الحرب التي تلتهم سورية لسانها كل يوم، لتخبرني بأنني جبان بما يكفي، كي أخشى مجرد مصافحتها!».

«أطفال الحروب ليسوا كنظرائهم من أطفال العالم، فهم لا يقضون أوقاتهم في جمع التوت البري وحبات النبق واللوز، بل تجد ظهورهم محنية من فرط هوسهم بالتقاط خراطيش الرصاص!».

تطل الحرب بوجهها كل يوم، في الصحف، نشرات الأخبار، مواقع التواصل الاجتماعي، فأشيح بوجهي عنها!

تخبرني الحرب بأني جبان، وتخيفني صور الجثث مقطوعة الرؤوس، فيغمرني الغضب وأبحث عن صور ضحايا الحروب لأثبت لها أنني أكثر شجاعة وإقداماً ممّا تظن/أظنّ!

انطلت عليَّ خدعة الحرب، وأصبح لديَّ أرشيف متكامل في ذاكرتي من الصور التي تضخها وسائل الإعلام عن ضحايا الحرب في سورية، لكن صورة واحدة تظهر فيها مجموعة من الأطفال السوريين يركلون بمتعة بالغة رأساً مقطوعاً، آلمت إنسانيتي وأبت إلا أن تستقر في عمق الذاكرة.

عندما نتحدث عن الأثر الذي تخلفه الحروب، فإننا غالباً نتحدث بلغة الأرقام كباعة، فنحصي عدد القتلى، ونحسب عدد الجرحى، ونقدر عدد المفقودين.

ولكن لا أحد منا يتحدث عن التأثير الذي تتركه الحرب في نفوس الأطفال الناجين من ويلاتها!

إن أطفال الحروب ليسوا كنظرائهم من أطفال العالم، فهم لا يقضون أوقاتهم في جمع التوت البري وحبات النبق واللوز، بل تجد ظهورهم محنية من فرط هوسهم بالتقاط خراطيش الرصاص!

وهم لا ينامون ليلاً وبجانبهم دمية أو «دبدوب»، بل يحرصون على ترك مساحة فارغة إلى جانب رؤوسهم، لتستقر قذيفة طائشة! الأطفال الآخرون نخبويون في أحلامهم، فأغلبهم يحلم بأن يكون طبيباً، أو مهندساً، أو طياراً، أو وزيراً حتى، وأقلهم يحلم بأن يكون كاتباً!

إلا أن أطفال الحروب لا نصيب لهم من هذه الأحلام الفخمة، ففي ظل واقع يجبرهم على أن يكونوا مشروعات إرهابيين محتملين، نجدهم يحلمون بشيء مختلف، كأن يكونوا مجاهدين مثلاً! فعلى ضوء الروايات التي تتناقلها وسائل الإعلام، تحول كثير من الأطفال في المناطق التي وطأها «داعش» من دراسة العلوم والرياضيات واللغة إلى دراسة فنون القتال واستخدام السلاح وعمليات التفجير والاغتيال!

رغم أننا من أكثر شعوب الأرض خوضاً للحروب، إلا أننا أقلها دراسة لها، فلم أقف رغم بحثي على دراسة تتناول التأثير المدمر للحروب في الأطفال. في روايتها «الدفتر الكبير» تلتقط الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف صوراً حياتيّة من الجنون الذي تخلفه الحروب في نفوس الأطفال، فتروي سيرة طفلين شوهتهما الحرب، ودمرت براءتهما، وحولتهما إلى وحشين صغيرين يخططان للبقاء على قيد الحياة عن طريق الإيقاع بالجميع، ولا يستثنيان أقرب المقرّبين لهما. فتراهما في أحد المشاهد يحرقان كوخ جارتهما، وفي مشهد آخر يسممّان جدتهما، أما في المشهد الأخير فيتسببان في مقتل والدهما وهو يحاول الهرب من أتون الحرب! إن سيرة الطفلين التي تقدّمها كريستوف في روايتها، التي تقترب في موضوعها من الدراسة النفسية، هي سيرة أطفال الحروب جميعاً بطريقة أو بأخرى. فللحرب حقيقة واحدة، ووجه واحد، لكن من أين لنا الجرأة لمواجهتها؟!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر