كل جمعة

التاريخ لا يصلح للإقامة

باسل رفايعة

يجب ألاّ نرفع لليأس راية، وألاّ نفتح للحزن مأتماً طويلاً. هناك ما يمكن عمله دائماً في ظلال هذه الكارثة. التاريخ يكتظ بالدروس، والمهم أن يبقى مجرد تاريخ يستريح في الأرشيف، ويُستفاد منه للقراءة، لا للنسخ والتكرار. التاريخ نهايات مستمرة للأمم والأفكار، والمسرات والحروب. بدأ غالباً من صراع على أرض وسيادة ووجود، واخترع له أبطالاً وضحايا في ملحميّات وأساطير. مجّدته انتصارات، وكذّبته هزائم، لكنه دائماً انتهى.

تاريخنا لا يشذّ عن قوانين الطبيعة. نحن نسعى إلى شذوذ شديد في الإصرار على رفض الراهن والمستقبل، واستعادة التاريخ، والعيش فيه. على أن ما يحدث ليس أكثر من سحب سوداء شديدة الاتساخ والكثافة، ولا بد أن تبدّدها الريح، فتعبر، وإنْ بكثير من الغبار والدم والخراب.

«الأمم الحية لديها طاقة طبيعية في الوثب العالي، والأمم الهزيلة مصابة بكُساحٍ مزمن، يجعلها أكثر استمتاعاً بالهزيمة واليأس».

لسنا أكثر سوءاً من أمم عاشت قسوة وتوحشاً في تاريخها البعيد والقريب. لسنا أكثر دموية من غيرنا. الفرق أن الأمم الحية لديها طاقة طبيعية في الوثب العالي، والأمم الهزيلة مصابة بكُساحٍ مزمن، يجعلها أكثر استمتاعاً بالهزيمة واليأس.

الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول، الذي أحرق مكتبة الإسكندرية عام 391 ميلادية، كان يبطش باسم المسيحية، وقد أمر بإعدام الأطفال الذين يلعبون بالدمى الوثنية، وحوّل المعابد إلى كنائس، وبلغ من التطرف الديني أنه ألغى الألعاب الأولمبية، باعتبارها مناسبات وثنية للكفّار، ومثله الإمبراطور كارل شارلمان الذي ذبح أكثر من خمسة آلاف شخص، لأنهم رفضوا اعتناق المسيحية.

الحروب الصليبية نفسها، التي قادها الباباوات قتلت ملايين البشر. صحيح أن الكنيسة تأخرت قروناً في الاعتذار عن جرائمها، حتى قبل نحو 15 عاماً عندما اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عن فظائع الحكم باسم الصليب عبر التاريخ، لكنّ الأهم أن المسيحية نفسها كانت قد استراحت في الكنيسة قبل ذلك بقرون، بعدما خرجت من التعليم والتشريع، وكل ما يتعلق بإدارة شؤون الدول، وحياة شعوبها.

لا أحد الآن في العالم المسيحي يريد دولة دينية، والكنائس للمتدينين والسياح والباحثين في تاريخ العمارة، وبقدر ما كانت تبطش بالعلماء والمفكرين، بقدر ما أتاح التحرر من هيمنتها على الحكم ازدهاراً علمياً وثقافياً، سمحَ بمراجعة تاريخها ونقده.

تمكّن الأوروبيون والغرب من تحقيق نهضات كبرى، وقفزوا إلى المستقبل. لا نحتاج قروناً للخروج من نكبتنا الحضارية. فنحن لم نُلقِ قنابل نووية على البشر، ولم نحرق ملايين الناس في أفران الغاز. الحروب المغولية قتلت أكثر من 40 مليون شخص، والحربان العالميتان أهلكتا أكثر من 60 مليون إنسان. ليس هناك فرصٌ ضائعة. لاتزال لدينا الفرصة الكاملة في هذه المنطقة للنهوض، وليس مطلوباً أن نسدد الثمن كاملاً. بمقدورنا أن نكتفي بالخسائر الماضية، ونعثر على الحلول.

وحين يحاول الهمج استمطار التاريخ بفتاوى وبكتب مظلمة، ليبرروا الذبح والحرق والاغتصاب، وإضرام النار في الكتب، ثم تحطيم المنحوتات الفنية. نستطيع أن نواجه الإرهاب في منطقتنا بحصتنا من التاريخ نفسه. لقد عشنا عصوراً ذهبية، وكان لنا تأثيرنا البالغ في الحضارة الإنسانية في العلوم والطب والفلك، فمن القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر، كان العلماء العرب والمسلمون مراجع في الرياضيات والهندسة والفيزياء. لدينا إنجازات البيروني وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم، وغيرهم من العلماء الأفذاذ. لكن فهم حاضرنا برؤيته وأدواته هو ما يُمكّننا من العبور إلى مستقبل مختلف، وعلينا ألا ننسى دائماً أن التاريخ لا يصلح للإقامة.

brafayh@ey.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر