كل جمعة

المهم محاربة «التدعيش»..

باسل رفايعة

دولة «داعش» ليست «باقية، ولن تتمدّد»، كل ما على الأرض ليس أكثر من عصابات متوحشة، تخترع وسائل لذبح البشر، وتواصل الكذب والإرهاب وتسويق الخرافة. التنظيم يخسر الآن في الجغرافية المضطربة والبائسة التي نشأ فيها، ومن عين العرب (كوباني) إلى محيط الموصل، فمناطق أخرى حول الفرات العراقي تستمر خسائر «الدواعش» كل يوم، بفعل المقاومة الشعبية، والضربات العسكرية من التحالف الدولي، وغيرهما.

الترسانة العسكرية «الداعشية» تتناقص، والإمداد لم يعد بذلك الزخم الذي كان منتصف العام الماضي، كما أن سلوك التنظيم السياسي والإعلامي العسكري يساعد أعداءه على هزيمته في فترة أقصر من المتوقع، فالعالم بات مستعداً لدفع كل كلفة ممكنة في سبيل تفكيك هذا الإجرام وإنهائه.

«لا خيار أمامنا، فإما أن نبدأ بأقصى مستويات الحجر على هذا الوباء، أو أن ندعه يفتك بالبلاد والعقول والمصائر».

لكن ذلك بحدّ ذاته، لا يُعدّ نصراً حقيقياً، على أهميته في سياق القضاء على القتلة، أو اعتقالهم، وتدمير قواعدهم العسكرية، فالمعركة ضد «التدعيش» في المجتمعات لم تبدأ بما يوازي التطرف الديني الذي نجح «داعش» في رعايته وتصديره، والحرب على هذه الكارثة لاتزال أمنية: ذهنيةً ووسائل.

كلنا يعرف من أين يأتي «التدعيش»، وكيف يستثمر التشدّد والجهل، ويُغري العامة بالخداع والأكاذيب، مستغلاً التدين الراسخ في المجتمعات العربية، وساعياً إلى بلورة دين جديد، ينزع إلى العنف، وفرض الأفكار بالقوة، وتغيير الواقع بالإرهاب.

محاولات خجولة هنا وهناك في الوطن العربي، لتحرير الخطاب الديني من العنف والتشدّد، فيما يغيب الجهد الفكري الممنهج لمحاربة «التدعيش»، بإصلاح المؤسسات التربوية والدينية والتشريعية، حيث يقيم التطرف والتكفير ورفض الآخر، وحيث تسود ثقافة استعلائية على الحضارات والأمم، وحيث تكتظ رفوف مكتبات المدارس والجامعات بكتب مراجع التطرف والظلام والتحريض على القتل والتكفير.

نحتاج إلى كثير من الصراحة والشجاعة في مواجهة «التدعيش»، فمناهج التربية الإسلامية، في العالم العربي تنطوي على قدر كبير من أفكار السلفية الجهادية، ومردّ ذلك إلى المرجعية الذهنية لواضعي تلك المناهج، وهم في معظمهم ينتمون إلى تيارات دينية متشدّدة، وعلى الرغم من محاولات التنقيح التي طالت بعضها في السنوات الماضية، إلا أن ذلك كان عديم الأثر والجدوى، فمازال هناك طلبة عرب في المراحل الابتدائية يدرسون أن على المسلمين قتال الكفار، ليس باعتبار ذلك تاريخاً، وإنما فرض على كل الأجيال في المستقبل، بدلاً من التركيز على العبادات وتعليم الأطفال التسامح، وقبول من يختلف عنهم، باعتدال وانفتاح.

من هنا يتسلل «التدعيش» إلى الأجيال، ويشجعه التعليم المتخلف في معظم المدارس العربية، ثم ترعاه مؤسسات دينية وإعلامية، تفتح أبواب الهواء المباشر لمقاولي الفتاوى والإعلانات الدينية التجارية، وبين هذا وذلك، لا تُراجع الهيئات التشريعية كثيراً من القوانين التي ينفذ منها «القواعد» و«الدواعش» إلى المجتمعات، ويتدخلون في حرية الأفراد في الأفكار والمعتقدات وأسلوب الحياة الذي يناسبهم.

من الخطأ الظن أن الحاضنات الاجتماعية التي يترعرع فيها «التدعيش» محصورة في العراق وسورية، ثمة أكثر من بلد عربي شهد محاكاة لإرهاب التنظيم، من رجال ونساء، اعتنقوا أفكاره، وآمنوا بوسائله، دون أن يسجلوا أنفسهم في سجلاته في الرقة، وكما أن دولاً عربية منخرطة فعلاً في التحالف الدولي ضد «داعش»، فإن الأهم أن يكون هناك جهد مؤسسي عربي ضد جذور هذه الآفة، وهو جهد ثقافي، قبل كل شيء، لتنقية الفكر الديني من الغلو والانحراف، وإصلاح الخطاب السائد، بالحذف والتغيير، وإعادة بناء مفرداته ومفاهيمه من جديد.

لا خيار أمامنا، فإما أن نبدأ بأقصى مستويات الحجر على هذا الوباء، أو أن ندعه يفتك بالبلاد والعقول والمصائر.

brafayh@ey.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر