مزاح.. ورماح

بقايا وطن

أحمد حسن الزعبي

في العمود الصغير المربّع بقسم الترفيه والمنوّع يقول الخبر:

«تعرّض طفل سوري لاجئ في تركيا للضرب بقسوة من قبل مدير فرع تابع لسلسة مطاعم «بيرغر كنغ» في أحد أحياء إسطنبول، لأنه أكل بقايا البطاطا التي تركها أحد الزبائن، ورافق الخبر (الملوّع) صورة الطفل وهو يرتدي سترة متّسخة وبنطالا معفّراً، وحذاء قديماً برباط برتقالي وبعض المناديل حوله عليها بقع من دماء الطفل الطازجة».

خلف الزجاج دفء وزبائن سعداء، طاولات حمراء وزرقاء، وأسرة تضحك وتتقاسم الخبز الساخن والدجاج المقلي، خلف الزجاج أم وأب وأطفال مثلي لكنهم يأكلون على الكراسي وينامون على سرير أبيض كالغيمة، أما أنا فآكل على الرصيف وأنام في زاوية الخيمة.. تتسع رقعة البخار على الزجاج كلما التصقت شفتا الطفل بواجهة المطعم، ترى ما هذه العبوات البيضاء الصغيرة، وما طعم ذلك الأحمر المقرمش.. يتسع البخار فتصبح طاولة الزبون غباشاً يمسحه بكمه فتتضح قليلاً، يمشي خطوتين ويقترب ثم يقول بطنه الملتصق جوعاً: كم زجاج سيارة عليّ أن أمسح حتى أجمع ثمن العشاء.. أووووه.. أحتاج إلى أسطول من الكرماء، ماذا لو ناداني صاحب المطعم وأعطاني وجبة لي ولأخوتي.. هو يراقبني! ربما يفعلها، لقد رأيته ينحني مرتين خلف «فترينة» التحضير.

وبصوت خافت لا يكاد يُسمع أذنيه: هيا يا عمّ ضاعف لي كمية البطاطا فأنا جائع ولي إخوة في الانتظار.. بموازاة فمه تزداد رقعة الضباب على الزجاج، لا يكاد يرى سوى لونين متداخلين بين الكراسي والطاولات، الأحمر والأزرق، قام الزبون وأولاده، تركوا بعض عبوات «المايونيز» و«الكاتشاب»، وثمة طبق من عظام وأصابع من البطاطا.

جروا كراسيهم للوراء أعطوا النادل إكرامية، لبسوا معاطفهم وغادروا من الباب الخلفي.. تقدّم الطفل، عمّال المطعم يتقاسمون الإكرامية والنكات عند فوهة المطبخ.. تسلل من الباب الموارب.. اقترب من الطبق المتروك، تذوق أصابع البطاطا الدافئة، أخذ ثانية وثالثة وبدأ يأكل بنهم.. اقترب المدير، صفعه ثم لكمه على وجهه، يا عم أنا لا أسرق أنا آكل البقايا.. لم يسمعه، فلا صوت للاجئ، يا عمّ أنا جائع.. لي خيمة ووطني ضائع.. صفعة ثانية.. يا عم يا عم.. مهلاً أنا أنزف جوعاً ودماً.. في الصفعة الثالثة توسع الجرح.. ليختلط من جديد بين الحاجب والمفرق.. اللون الحمر والأزرق.. ابتلع الطفل نشيجه وفي فمه بعض ملوحة اللجوء.. صاح من خلف الزجاج المغبش بضباب القهر والدموع... يا عم لو أن لي بقايا وطن لاحتطبت ركبتي قبل الركوع.. يا عم الوطن مثل السماء واحد.. وليس له سلسلة فروع!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر