أبواب

«سير ذاتية» بالجملة

يوسف ضمرة

في الغرب، تلاقي السيرة الذاتية للمشاهير رواجاً كبيراً، وفي أغلب الحالات تتحول السيرة إلى عمل سينمائي. في المحصلة يتم الاستثمار في الاسم والمثال، سواء كان سياسياً أو فنياً أو رياضياً.

وفي عموم السير الذاتية، غالباً ما يتم التركيز على مرحلة «المجد» الذاتي، كفترة ولاية الرئيس الأميركي مثلاً، أو مرحلة صعود النجم الرياضي أو السينمائي.

أن ينشر أحدهم عملاً روائياً أو شعرياً، ثم يخرج علينا بسيرته الذاتية، فهذا ما لا تفسير له إلا الفقر الصريح، افتقاد المقدرة التخييلية وفقر التجربة الذاتية.


إذا كان كل ما يرد في هذه السير صحيحاً، فإن الأولى والأجدر أن ينهل الكاتب من هذه التجارب والخبرات، ويوظفها في مشروع.

لا نلمس بطولات وهمية أو متخيلة. لا نقع على أسطرة من أي نوع. وغالباً ما تكون التفاصيل أقرب إلى الحقيقة، وإن خالطتها انتقائية ما. فالسيرة الذاتية حين تتحول نصاً، تصبح عرضة للكذب والتشويه بالضرورة. فإخفاء المعلومات كذب، والانتقائية كذب. لكن الأهم من هذا وذاك، هو أنه ليس ثمة فرصة لأي كان أن يكتب سيرة ذاتية. أعني أنه ليس كل من غنى ورقص ووقف أمام الكاميرا وركل الكرة في الغرب، قادراً على كتابة سيرته الذاتية، لأن الاستثمار التجاري لن يكون ناجحاً أو مربحاً في أي اسم. أي إنه لا بد من شيوع صاحب السيرة وشهرته وتقدمه ليصبح مثالاً أو نموذجاً أو قدوة، لكي يتحقق الأمر.

بالنسبة لنا نحن العرب، فالسيرة الذاتية أصبحت في متناول اليد، وعلى قارعة الطريق، كما يقال. كتاب وأدباء وسياسيون وفنانون مؤثرون وغير مؤثرين، أخذوا يلجأون إلى السيرة الذاتية، ويلوذون بها. فإذا كانت أم كلثوم شخصية فنية واجتماعية مثيرة، ونموذجاً ترك أثراً بالغاً في الفن العربي، فإن في استطاعتنا تقبل فكرة التعرف إلى سيرتها الذاتية. لكن هذا لا ينطبق على كل من غنى في مصر أو العالم العربي كله. ولا ينطبق على كل من وقف أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح. فما الذي ميز ماجدة عن مئات الممثلات لكي نشاهد سيرتها على الشاشة مثلا؟ هذا مجرد مثل وليس تخصيصاً بالطبع. وهو ينطبق على الكثيرين.

ربما نجح كاتب سيرة أم كلثوم أكثر من سواه، لأنه كان يدرك أن الثراء الحقيقي في شخصية كهذه، يكمن في الرحلة الفنية والغناء، وهو ما جعله ينحّي كثيراً من التفاصيل الحياتية التي لا تفيد في شيء، لأنها تتشابه مع تفاصيل الآخرين، ولا تشكل علامة فارقة لكي تضاف إلى السيرة الحافلة.

أما أن ينشر أحدهم عملاً روائياً أو شعرياً، ثم يخرج علينا بسيرته الذاتية، فهذا ما لا تفسير له، إلا الفقر الصريح؛ افتقاد المقدرة التخييلية وفقر التجربة الذاتية. ويصح لنا أن نسأل هذا الكاتب من دون حرج: من أنت؟ وماذا فعلت لنا لكي تطلعنا على طفولتك «الخارقة» وصباك وفتوتك ونشأتك «الأسطورية»؟ من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟ أليس هذا سؤال محمود درويش الاستنكاري؟ فإذا كان شاعر مثل محمود درويش يتساءل هكذا، فلماذا لا يتعظ الآخرون ممن هم أقل شأنا فنياً وجمالياً وشهرة وذيوعاً؟

وإذا كان كل ما يرد في هذه السير صحيحاً، فإن الأولى والأجدر أن ينهل الكاتب من هذه التجارب والخبرات، ويوظفها في مشروع روائي سيكون عظيماً، في ما لو امتلك المقدرة الفنية، والتعامل مع الوقائع بالحفاظ على مسافة واضحة بينه وبينها.

لكن من أكبر مشكلات الرواية العربية عموماً، أن هذه المسافة ليست قائمة أو واضحة. وكثيراً أو غالباً ما تنمحي أو يفقدها الروائي نفسه، لأن أغلبية الروائيين العرب يستلهمون تجاربهم الذاتية، ويعيدون العزف على أوتارها مرات أخرى. وهو ما يعني قلة الخيارات أمامهم.. للأسف.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر