5 دقائق

إياك نعبد

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

العبادة للواحد الأحد تشريفٌ للعابد قبل أن تكون تكليفاً من المعبود، فكم من عباد الله بحكم القهر لم يشرفهم المعبود بعبادته على سبيل الاختيار، فيعيشون في دنياهم عابدين أهواءهم وأوثانهم، ولم يتذوقوا شرف العبودية للحي القيوم، مع أن لهم من العقول ما يوزن بأمثالها الجبال، ومن الأفهام ما تثقب الماس، لكن لم يشأ الله تعالى أن يخصها بعبادته، ليعلم العابد الحق أنها اصطفاء من الله تعالى لمن أكرمه الله في الدنيا، ورشحه لكرامته في الآخرة، حين أراه أمثاله ممن يشاطرونه الصفات والمواهب والعقول، وهم لا يعرفون لله وقاراً، ولا للمكارم اختياراً.

فما أحوج أن يعرف العباد ما شرفهم الله به من صفاء العبودية للمعبود الحق!

عبادة الله تعالى بمفهومها الواسع تعني الخضوع للمعبود جل في علاه لاستحقاقه العبادة لجميل صنعه، وبديع إبداعه، وعظيم لطفه، وكامل تدبيره، وبالغ حكمته.. فقد أتقن كل شيء خَلقاً، وأحسن كل شيء صنعاً، فخلق من العدم، وأمد بالنعم، ودبر أحسن تدبير، وأخضع كل شيء لملكوته وقهره، وأرسل لعباده الرسل، وأنزل معهم الكتب ليهديهم إلى ﴿صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾.

وقد أراد من عباده كلهم أن يعبدوه بالاختيار في ضوء ما شرعه لهم من صنوف العبادة التي أرادها بشرعه، لتكون العبادة على مراده هو سبحانه لا على مراد العابدين، عبادة القلب بالإيمان، والإخلاص والرضا والتوكل والخوف والخشية والشكر، وعبادة الجوارح بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وعبادة المال بالزكوات والصدقات والنفقات الواجبات، ليكون العبد في رياض العبودية لله يتفيّأ ظلالها، وهو يقول ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

كل ذلك لأنهم عرفوا استحقاقه للعبادة، وحاجتهم إليها، فلم يعبدوا الأهواء ولا الأنداد من الفقراء للمعبود الحق، ولم تغرهم الدنيا بزخارفها الفاتنة لعلمهم بسرعة زوالها، وكثرة منغصاتها، وعرفوا أن ما عند الله هو خير وأبقى، وأن نعيم الدنيا في ظل عبودية الله موصول بنعيم الآخرة في ظل رضوانه سبحانه.

فما أحوج أن يعرف العباد ما شرفهم الله به من صفاء العبودية للمعبود الحق! فيزدادوا بها تمسكاً، وفيها إخلاصاً، ولله رغَباً ورهَباً، ويعلموا أن الملك الحق سبحانه غني عن عبادة خلقه كلهم، وأن إرادته لها وتكليفهم بها هي محض اختبار، ليمِيْز بها الخبيث من الطيب، وليقيم عدله بين عباده بالقسط، فمن عبده بمعرفة وصدق كان أهلاً لكرامته، ومن تمرد عليه كان أهون عليه من الجُعل.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر