أبواب

وداعاً زياد

يوسف ضمرة

مؤلم هذا الواقع الذي نحياه، مؤلم حد الفجيعة، كيف يتخذ فنان مبدع كزياد قراراً كهذا؟ كيف لفنان نشأ في بيت فني عربي وشهد مرحلة الصعود الفنية للرحابنة، أن يدير الظهر مرة واحدة لهذا الإرث وهذه الذكريات؟

يعيش زياد كغيره من المواطنين العرب حالاً من الانقسام والتشظي، في عالم فقد عقله تماماً، فبينما يستمع البعض بشغف إلى موسيقى زياد ثمة من يتوعده بالذبح بسبب هذه الموسيقى نفسها.


يدرك زياد أن الأسرة العربية كانت تصحو من النوم لتسمع أغنيات فيروز، وكثير منها بموسيقاه الجديدة. يدرك أنه أحدث صدمة في صورة فيروز التقليدية.

يدرك زياد أن الأسرة العربية كانت تصحو من النوم لتسمع أغنيات فيروز، وكثير منها بموسيقاه الجديدة. يدرك أنه أحدث صدمة في صورة فيروز التقليدية التي عرفها الناس منذ بداياتها حتى «هدير البوسطة» و«عودك رنان». يدرك أن الناس ارتبكت قليلاً وهي تستمع إلى فيروز تغني «كيفك إنت ملا إنت؟». لكنه يدرك أيضاً أن هؤلاء الناس أنفسهم باتوا ينتظرون هذا اللامألوف من زياد وفيروز. فقد انتهت مرحلة «حبو بعضن» التي لحنها زياد في «ميس الريم»، وبدأت مرحلة جديدة قادها زياد بجرأة وشجاعة فائقتين، لا يتأتيان إلا لمبدع مغامر.

هل انتهى هذا كله؟ لقد فقد زياد صديق عمره وحامل أفكاره جوزيف صقر، وكبرت فيروز، وصار لزاماً على زياد بعد أن وصل إلى عتبة الـ60 أن يبحث عن رئة أخرى بين هذه الأنقاض العربية والخرائب والموت والدم. لا ليس ثمة ما يشجع المرء على الإبداع في عالم يعيده أبناؤه أكثر من ألف عام إلى الوراء،

« شو بدي في البلاد؟ الله يخلي لِولاد» أي قراءة!

يعيش زياد، كغيره من المواطنين العرب، حالاً من الانقسام والتشظي، في عالم فقد عقله تماماً، فبينما يستمع البعض بشغف إلى موسيقى زياد، ثمة من يتوعده بالذبح بسبب هذه الموسيقى نفسها. وبينما كانت فيروز «تسرح وتمرح» وتقف على مسارح الدنيا كلها، أتى زمن يقال لها: لا تذهبي إلى البلد الفلاني واذهبي إلى ذاك.. لا تغني لهذا الجمهور العربي وغني لذاك.

جاء زمن صار على زياد ـ كغيره من المبدعين ـ أن يتحاشى السفر إلى بلاد محددة، وأن يتحاشى حتى الانتقال من منطقة إلى أخرى في بلده، وربما من حي إلى آخر. لم يعد الأمر مجرد قبول فني أو رفض لإبداعات غير مستساغة لدى البعض، بسبب ما ترسب في الذائقة الجمالية من قداسة فنية لما مر وانقضى.

فنياً أصبح واحد مثل زياد هامشياً إلا عند النخب الفنية والثقافية. لم يعد الناس العاديون يتقبلون أغنيات جديدة من دون حركات ونساء جميلات ومفاتن مجانية، تغطي الفقر الهائل في الكلام والموسيقى، مرحلة مختلفة ثقافياً عبرناها، سواء قبلنا أم لم نقبل، رفضنا أم لم نرفض. أين يمكن صرف موسيقى زياد في هذه الساحات الموبوءة فنيا وثقافيا؟

حُق لك، اذهب إلى حيث شئت، ولا تبق في هذه البلاد التي يتنافس فيها السياسيون على أحقية رفع الرايات الملونة. أنت تعيش منفاك الداخلي منذ سنوات، فلماذا لا تفتش عن منفى حقيقي؟ لم لا تقول لهذه البلاد وداعاً؟ لم تظل مرمياً وراء الكواليس في انتظار أن يسمح لك المخرج بكلمة عابرة؟ ندرك أن جذوة الإبداع فيك لا تطفئها المسافات ولا حالات الطقس الجديدة. ندرك أن الفنان في داخلك سينجو، كما نجا الفن الحقيقي في أعماق آخرين اضطُهدوا وهُمشوا. اذهب فلن نخاف عليك من وحدة لن تكون أقسى من انسحاق بين أنياب شخصيات تاريخية، جرى إخراجها من قبورها بعد ألف عام من موتها!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر