أبواب

مصطلحات غبية

يوسف ضمرة

شاعت في الأدب العربي عموماً، والنقد خصوصاً، مصطلحات أدبية غريبة، ربما كانت هذه المصطلحات في البدايات قابلة للسجال، لكنها بمرور الوقت اكتسبت ما يشبه المشروعية، وأصبحت أقرب ما تكون إلى القوانين، والسبب بالطبع هو أننا نطمئن إلى السائد والمألوف، أكثر من اطمئناننا للمساءلة والمراجعة.

من الغريب أن نضمّن كلامنا عن الأدب كلمة «الأخلاق» في أي صورة وردت، إذ لا علاقة مطلقاً بين الأدب والأخلاق بالمعنى المتعارف عليه مجتمعياً، فالأدب ليس مادة أخلاقية، ولا يدعو إلى تنمية الأخلاق كالتربية المنزلية والمدرسية.

تحتاج المساءلة إلى مقدار كبير من الشجاعة، لأن فيها ما قد يشكل صدمة للذوق العام، أو المفهوم العام، أو الفكرة المهيمنة.

تحتاج المساءلة إلى مقدار كبير من الشجاعة، لأن فيها ما قد يشكل صدمة للذوق العام، أو المفهوم العام، أو الفكرة المهيمنة. لكن المفارقة هي أن لدينا الشجاعة الكبيرة لتقبل مصطلحات جديدة، لمجرد كونها قادمة من وراء البحار كما يقال، أو لأن أستاذاً مشرفاً على رسالة أكاديمية أحب مصطلحاً أو ارتاح إليه، فراح تلاميذه وزملاؤه يسوّقون هذا المصطلح من دون تبصر في معناه أو قيمته.

لقد أتيح لي أن أستمع إلى ندوتين لمناسبة إقامة معرض عمان الدولي للكتاب، وفوجئت بمصطلحات يرددها نقاد من دون أن يرف لهم جفن، وهم يناقشون تقنيات الرواية الحديثة وجمالياتها. فقد قيل مثلاً «جماليات أخلاقية» و«جماليات عابرة للثقافات» و«جماليات روحية»، وتم تأكيد المقولة البائدة، وهي أن الرواية فن مستورد وليست فناً عربياً، لأنها لا تشبه المقامات والسير.

ومن الغريب أن نضمّن كلامنا عن الأدب كلمة «الأخلاق» في أي صورة وردت، إذ لا علاقة مطلقاً بين الأدب والأخلاق بالمعنى المتعارف عليه مجتمعياً، فالأدب ليس مادة أخلاقية، ولا يدعو إلى تنمية الأخلاق كالتربية المنزلية والمدرسية، وهو في معيار «الجماليات الأخلاقية» لا يمتلك مشروعية انتشاره ونشره والتذكير به.

ولا يختلف الأمر مع مصطلحات مثل «الجماليات الروحية» و«العابرة للثقافات»، فلا أحد يعرف متى يتم التركيز على جماليات روحية لا مادية، أو ما الذي يجعل من رواية تحوز هذه الجماليات وأخرى تفتقر إليها، وحكاية العابرة للثقافات كمصطلح ينبغي لها أن تُقابل بالكثير من السخرية والدهشة معاً.

لا تكمن الإشكالية الحقيقية في اعتماد مصطلحات كهذه، وإنما في كون مروّجيها أصبحوا أساتذة أكاديميين في جامعات تدرّس مادة الأدب، وهؤلاء يشكلون دليل النقاد المستقبليين، الباحثين عن المعنى والوسيلة وآليات التلقي والتأويل.

سيكون لزاماً على هؤلاء الطلبة الشروع في «الحفظ» أولاً، وتأكيد أهمية المصطلح وجدواه بأي شكل كان، لأنهم بذلك يكتسبون حق اجتياز التجربة، ويصبحون مؤهلين لتسلم الرسالة لاحقاً، قلة فقط من هؤلاء هم الذين يعيدون النظر في كل ما قرأوه كمادة دراسية؛ أي كمادة قسرية لا طوعية، وهذه القلة هي التي تحرص لاحقاً على إيجاد مسافة بينها وبين «الملقن أو الواعظ»، وتبدأ رحلتها البكر بحثاً عن المعنى ووسائل التلقي والتأويل بعيداً من مقاعد الدرس ومواعظ الأساتذة.

ليس النقد ترداد مصطلحات غبية سبق أن قيلت أو حُفظت، وأصبحت مسلّمات بالنسبة لكثير من الأساتذة المحافظين، وإنما النقد هو الخوض في بحار الكتابة والفنون دون خشية من الغرق، وحينها سيتعلم الخائضون أساليب جديدة للغوص والعوم، فإذا كان كل ما قيل في بعض الكتابات العظيمة صحيحاً ونهائياً، فإن ذلك يعني أن يكف النقاد الجدد عن العودة دائماً إلى المأساة اليونانية وعالم شكسبير.

لا يشكل المصطلح في العالم النقدي سوى إشارة أو علامة ليس إلا، ولا تكتسب هذه الإشارة أهميتها إلا من خلال تطبيقها على النص، أما ترديدها في الأمسيات والندوات واللقاءات الثقافية من دون إسناد فلا يعدو كونه استعراضاً بهلوانياً ليس أكثر.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر