أبواب

التواطؤ بين المبدع والمتلقي

يوسف ضمرة

فجأة تتوقف الروائية في رواية «س» لكفى الزعبي، وتلتفت حولها، لتكتشف أن الأشياء العادية؛ الأشياء التي تراها كل يوم؛ الأشياء التي نمر بها ونعيشها في كل آن، هي أشياء مثيرة للدهشة.

لن أتناول الرواية هنا، بمقدار ما دفعني اكتشاف الروائية للتأمل، والتفكير في اللحظة التي يشق فيها النص التراب، ويبدأ في الصعود.

هذا الأمر الذي يحدث فجأة، هو ليس كذلك في جوهره، وربما تؤكد أحداث الرواية اللاحقة أنه ليس كذلك، لكن المفاجئ هو لحظة التنوير أو الكشف، الوهج الذي يغمر روح الكاتب كأنما جرى اختياره من بين الآخرين، ليبلغ الناس رسالة يصعب حملها، رغم أن البعض يظن غير ذلك.

لم ترَ الروائية شيئاً غير الذي نراه نحن جميعاً، لكنها هي التي اكتشفت أن هذا كله مثير للدهشة، وهذا هو أحد أسرار الكتابة الإبداعية.

الدهشة المفاجئة أمام العادي والمألوف، لم تأتِ اعتباطاً أو كيفما اتفق، إنها تراكم مشاهدات وتخزين خبرات لا يتوقفان.

لم ترَ الروائية شيئاً غير الذي نراه نحن جميعاً، لكنها هي التي اكتشفت أن هذا كله مثير للدهشة، وهذا هو أحد أسرار الكتابة الإبداعية، أن ترى في العادي والمألوف واليومي ما لا يراه الآخرون، أن تمتلك عيناً ثاقبة، وروحاً تواقة متوثبة، وبهذه الطريقة وحدها تكون قادراً على هتك الستارة الرقيقة جداً، التي تغطي الأشياء.

هذه الدهشة المفاجئة أمام العادي والمألوف، لم تأتِ اعتباطاً أو كيفما اتفق، إنها تراكم مشاهدات وتخزين خبرات لا يتوقفان.

كلنا يرى بائع الجرائد العجوز، لكنَّ واحداً فقط يرى النًَص فيه، واحد يكتشف أن ما يراه ليس مجرد رجل عجوز يبيع الجرائد، وإنما هنالك شيء مثير للدهشة، وعلى هذه الرؤية أن تصل إلينا كقراء، بمقدرة إبداعية خلاقة.

هنا تماماً؛ عند هذه النقطة بالتحديد، يلتقي المبدع والمتلقي، كأنه تواطؤ من نوع مغاير في الحياة، هو الذي يجمع الاثنين. فمايكل أنجلو يقول حينما سئل عن سر إبداعه: إنه لا يفعل شيئاً سوى الاستماع لنداء التمثال في الحجر، فيقشره. أما نحن فنتوقف ممتلئين بالدهشة أمام تمثاله الذي يكاد ينطق. كثيرون مروا بالحجر نفسه، وربما أنجلو نفسه مر به من قبل مرات عدة، لكنه في لحظة خاصة، سمع نداء التمثال فقشر الحجر. الآخرون لم يسمعوه، ولو تمكن الجميع من سماعه لأصبح الناس كلهم فنانين، وهذا ما لا يحدث. هنالك دائماً شخص محدد هو الذي يلتفت إلى ما لا يلفت انتباه الآخرين، هو الذي يرى في سلوكنا اليومي والمعتاد شيئاً مدهشاً يدفعه إلى الكتابة أو الرسم أو الغناء. دهشة المبدع السابقة للنص مرتبطة بدهشة المتلقي بعد الانتهاء من النص، يحتاج الطرفان إلى بعض الجرأة للتعبير عن هذه الدهشة، المبدع يحتاج إلى مكاشفة نفسه أولاً؛ إلى تصديق دهشته المفاجئة؛ إلى الإيمان برؤيته التي تؤكد له أن بائع الجرائد العجوز ليس هو الرجل الذي نشتري منه الجريدة ونمضي فحسب، لابد أن يكون في الأمر شيء آخر لا نراه ولا ندركه، ولكي يتحقق ذلك، فإن القارئ سوف يشاهد ظلال بائع الجرائد الذي يعرفه في مكان آخر، كل رجل عجوز يبيع الجرائد، يصبح بعد النص مؤهلاً للبطولة التي اجترحها المؤلف لبائع محدد.

ينتقل الممكن من خصوصية ما إلى عمومية مختلفة. الكل منا يُسقط شخصيات الرواية التي يقرؤها على أناس يعرفهم أو التقى معهم أو سمع عنهم، لكن الأصل عند المؤلف شخصيات يعرفها، وحكايات خبرها بنفسه بطريقة أو بأخرى، لكن المؤكد هو أنه لم يرسم الشخصية نفسها، ولم ينقل الحكاية مثلما حدثت؛ ثمة روح متفردة في هذا كله.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر