أبواب

جماهيرية الكتابة

يوسف ضمرة

إذا لم تكن جماهيرية الكتابة مقياساً لجودتها، وإذا كانت هنالك عوامل كثيرة غير فنية تجعل من كتابة ما جماهيرية، ومن غيرها نخبوية أو مهمشة، فإن لنا أن نتخيل مقدار الكتابة الجيدة التي وقع الظلم عليها فأقصيت أو نحِّيت أو غيبت، وظلت حبيسة الكتب المهملة، أو أسيرة بعض الروايات الشفوية القليلة.

لنا أن نتخيل مقدار الكتابة الجيدة التي وقع الظلم عليها فأقصيت أو نحِّيت أو غيِّبت، وظلت حبيسة الكتب المهملة.


التاريخ الأدبي يكتبه أصحاب الرؤى الثقافية السائدة، الذين هم بطريقة أو بأخرى مستفيدون من تكريس هذه الرؤى والإبقاء عليها.

وإذا كان شيء من ذلك وقع حتماً في مراحل زمنية من تاريخ الأدب العربي، أفلا يكون في استطاعتنا مراجعة تلك الأخطاء وإعادة الاعتبار إلى الأدب الذي يقبع في الظل منذ أيام الشعر الجاهلي وحتى اليوم؟

ربما يتساءل البعض عن جدوى مراجعة كهذه، بعد أن ترسخ ما ترسخ في الذاكرة العربية، وبعد أن تم إقصاء غيره. وببساطة نجيب قائلين إن ثمة فسحة أولاً لإنقاذ الكثير من الإرث الفني والجمالي، الأمر الذي يسهم في إعادة صياغة الذاكرة الجمالية، وثانياً ــ وهو الأهم ــ فإن هذه الإعادة لصياغة الذاكرة ستشكل حصناً أو درعاً واقياً للكتابة الجيدة في المستقبل، وتسد الطريق أمام شيوع الكثير من أنماط الكتابة الرديئة التي تتسلل بدواعٍ غير فنية على الإطلاق.

ندرك بالطبع صعوبة ما ندعو إليه، وهي صعوبة تنبع في المقام الأول من صعوبة تحديد المعايير التي ينبغي لنا الاهتداء بها، وهي معايير مغايرة للسائد بالضرورة؛ أي أن الصعوبة قائمة على مبدأ المغايرة ذاته، فالتاريخ السياسي للأمم يدونه المنتصرون، وما علينا سوى العودة قليلاً إلى المؤرخ العباسي، لندرك حال الأمويين مثلاً.

أما التاريخ الأدبي فيكتبه أصحاب الرؤى الثقافية السائدة، الذين هم بطريقة أو بأخرى مستفيدون من تكريس هذه الرؤى والإبقاء عليها، وهذا ما يجعل من الكتابة المغايرة ظاهرة ينتظرها الإقصاء والنفي والتهميش، نظراً لما تحمله في جوهرها من رؤية جديدة ومختلفة، قادرة على الانتقال إلى حقول المعرفة الأخرى، وتقويض الرؤية السائدة في المفاهيم التي تشكل دعائم البنية كلها،

وبعبارة أو بأخرى فإن المسألة تنطوي على موقف أخلاقي وسياسي بالضرورة ، طالما كانت وظلت وفية للتكريس بأشكاله المتعددة، والتكريس في جوهره رؤية مؤسسية بالضرورة، حتى قبل ظهور المؤسسات الثقافية في التاريخ العربي. ويمكن القول إن السلطات الاجتماعية والسياسية والدينية قد لعبت دور الناقد والمؤرخ، ونذكّر هنا بالدور الذي لعبته الأسواق الثقافية ومواقع القبائل على السلم الاجتماعي والسياسي.

لقد حتمت الضرورة ــ ضرورة التكريس ــ على القصيدة الجاهلية أن تبدأ بالوقوف على الأطلال، ثم الغزل، ووصف الناقة، والفخر، وما إلى ذلك، ولو دققنا النظر في أسباب ذلك، لوجدنا أن أصحاب المعلقات كانوا من سادة العرب أو فرسانهم وأعزهم ــ عنترة قال قصيدته بعد الاعتراف به سيداً وفارساً ــ وهذا يعني أننا أمام شكل ثقافي/ اجتماعي تبنته القبيلة، لحمايتها وتحصينها وتكريس سلطتها والحفاظ على بنية تلبي احتياجات سادتها وأشرافها أولاً، من إعلاء شأنها بين القبائل، وعليه فقد كان كل شعر خارج هذه الدائرة منبوذاً ومهمشاً، ولم يتم تعليقه على أستار الكعبة، بل ما كان لأحد أن يخرج عن هذا الشكل وهذه الرؤية السائدة، إلا إذا خرج على القبيلة، أو نبذته القبيلة ذاتها، ولنا في الشعراء الصعاليك أمثلة صارخة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر