أبواب

ذاك المقهى

خليل قنديل

حينما أقبلت عليه هتفت: هذه هي اللحظة المناسبة التي يمكن أن تريني إياك كما أرغب وكما أشتهي عارياً من الحضور، ومن تلك الضجة التي يؤثثها رواد المقهى بتلك السماكة البشرية التي يصعب خرقها. فأنت وسط ضجة المقهى والحضور المكثف فيه يصعب أن ترى أرضية المقهى، أو حتى الجدران وفراغ المقاعد من آثار الرواد، ومن الحركة المتسارعة للأيدي وهي تستطيل وتتطاول حول المقاعد، ومن الأصوات التي تتداخل وهي تفقد طعمها البشري في الإيقاع، ومن هذا العناد في الملامح، التي تستعجل النصر في اللعب العابر للمقهى.

«خلف مقعد صاحب المقهى كانت صورة بالحجم الكبير للجد المؤسس للمقهى، وهو يجلس بكوفيته البيضاء وثوبه المقلم وبيده يمسك النارجيلة، بينما الشمس ساطعة من حوله، وقد فرحت لأنني أرى هذه الصورة لأول مرّة!».

وكان عليّ أن أختار اللحظة المناسبة لاقتحام المقهى حيث يكون فارغاً تماماً إلا من بعض العاملين فيه، ولهذا فقد عرفت اللحظة المناسبة التي يغلق فيها المقهى أبوابه وهي بين الرابعة والخامسة فجراً، وكنت أحتاج المبرر المنطقي كي أدلف المقهى؛ فكان عليّ أن أختار ذاك المكان الذي يعاني عتمة دائمة في المقهى كي أسقط فيه حافظة نقودي من جيبي، ويعاني أيضاً عتمة دائمة الترجرج! يا إلهي كنت بحاجة نفسية طاغية كي أرى المقهى دون رواده ودون زبائنه!

وبقيت أتململ في مكاني حتى صرت من آخر الخارجين من المقهى تاركاً نظراتي لا تفارق المحفظة الجلدية التي اكتسب جلدها الممحي تلك العتمة الجلدية. وحينما صرت في الخارج كان عليّ أن أنتظر فروغ المكان من باقي الرواد. بعد ذلك عدت للمقهى وطلبت من صاحب المقهى - وبأدب جم - أن أعاود الدخول للمقهى بحثاً عن محفظتي الجلدية. الرجل تقبّل طلبي وأعطى أوامره لبعض عمال المقهى كي يفتحوا لي باب المقهى، ومساعدتي على البحث عن تلك المحفظة!

أخيراً دخلت المقهى متباطئاً، وهالني هذا الصوت المُصمت لفراغ المقهى من الزبائن؛ إذ إني كنت أسمع صوتاً له طعم إيقاع القرقعة المعدنية، وكان يؤكد هذا الصوت قرقعة حواف النارجيلات التي اصطفت كطابور عسكري، وكانت استطالة المقهى واضحة لي هذه المرّة، وبدت وكأني أشاهدها لأول مرّة، حتى جدران المقهى سقطت في فخ وضوح المشاهدة فبانت تلك اللوحة الكبيرة التي تصور رحلة صيد في الريف اللندني في القرون الوسطى، بينما الكلاب تتنطنط حول الخيول والصيادين، وبدت ألوان اللوحة كامدة ومخنوقة في اللون البني المعتق.

وهناك خلف مقعد صاحب المقهى كانت صورة بالحجم الكبير للجد المؤسس للمقهى، وهو يجلس بكوفيته البيضاء وثوبه المقلم وبيده يمسك النارجيلة، بينما الشمس ساطعة من حوله، وقد فرحت لأنني أرى هذه الصورة لأول مرّة!

تحركت بعد ذلك بخفة متعمدة بين المقاعد والطاولات، ونظرت بتلك النظرة الجامعة للمكان وكأنني أتشربه تاركاً أصوات الرواد تتبدد في البعد المكاني كما أريد وكما أشتهي، بينما بدا المكان ليناً وممكناً.

وفي لحظة واحدة التفت إلى الأرض وأنا أراقب محفظتي الملتصقة بحنو على أرضية المقهى، وهنا صرخت بفرح طفولي: ها هي المحفظة.. ها هي.

تناولت المحفظة وخرجت من سطوة المكان بثقة عجيبة، ومن سطوة الحضور الكثيف لرواد المقهى!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر