أبواب

الكتابة المستحيلة

خليل قنديل

كلما قرأت كتاباً لا يخلو من الغرائبية تنافر المعطيات في النص الأدبي كنت أشعر بأني أدخل في رهان مع الكاتب الذي تورط في هذا النهج الكتابي الوعر، والذي لا يمنح نفسه بسهولة للكاتب المؤلف، فأنت في بعض الروايات الغربية تحديداً تجد نفسك أمام حالة فقر في معطيات النص الى الدرجة التي تسأل فيها عن الكيفية التي سينقذ بها المؤلف نصه، ويمنحه تلك الخصوبة الإبداعية المدهشة!

وعليه فإنك إزاء مثل هذه الأعمال الإبداعية تظل تتذكر شح العطاء المعرفي في معظم الأعمال الإبداعية العربية، تلك الأعمال التي تشعرك بأنك سبق أن قرأت مثل هذه الأعمال، وأن لا جديد خلف هذا التراكم اللغوي إلا ضجيج الإنشاء.

«الكتابة المستحيلة هي التي تجيء إلى رؤوسنا وهي تحمل تحديها الكتابي الخاص طالبة منّا أن نتخلى عن كساحنا الإبداعي، ونلتحق بالكتابة الوعرة التي تؤجج المخيال، وتمنحه كل هذه الندرة في الكتابة».


«حين تقرأ رواية مثل رواية (العطر) لباتريك زوسكيند، لن تصدق أن هذا الروائي قادر على نسج رواية كاملة الدسم تقوم على الأنف وحاسة الشم بمثل هذا الوعي القائم على دراسة الروائح، وأثرها السيكولوجي في الإنسان».

نعم إنك حين تقرأ رواية مثل رواية «العطر» لباتريك زوسكيند لن تصدق أن هذا الروائي قادر على نسج رواية كاملة الدسم تقوم على الأنف وحاسة الشم، بمثل هذا الوعي القائم على دراسة الروائح وأثرها السيكولوجي في الإنسان ورحلة العطر عبر التاريخ الإنساني. إنك هنا أمام حالة طرح تشريحية لكيمياء الأنف والروائح وأثرها في وعي الإنسان وطاقته الحيوية.

وهنا علينا أن ننتبه إلى أن مثل هذا التغريب النصي يمنح الكتابة طعم السحر ومذاقه، حيث يكون الإشعاع الكتابي أكثر خصوبة وربما أكثر حرية وأشد تنوعاً، إذ كيف يمكن للروائح التي نتنشقها بشكل تلقائي أن تتحول إلى مضمون إبداعي لا يخلو من الفلسفة العميقة.

وعودة إلى فخ المقارنة سنجد أن الكتابة العربية العرجاء تعاني حالة جبن تاريخية جعلتها تتجنب الوقوع في المساحات الكتابية الوعرة والجدباء، وذلك بسبب فقر المخيال الذي من الممكن أن يعيد تخصيب المكان وتشجيره، وآثرت سياسة المضغ الممل والاجترار.

وثمة روايات غربية أشد جرأة في اقتناص النص الغريب، فنحن نقرأ رواية «أفروديت» لإزابيل الليندي، إذ تتجلى موهبة التخصيب الكتابي حين نجد أن المؤلفة اختارت الطعام ليكون بطل نصها الإبداعي في تلك الرواية، فهي تحاول أن تثبت أن ثمة علاقة بين رغباتنا وطبيعة الأطعمة التي نتناولها وطقوسها، واندغام طبيعة هذه الأطعمة بطبائعنا.

وتتفرغ الليندي في كتابها هذا إلى تقديم الوصفات الطعامية كطاهية نادرة الحدوث كي تصل في نهاية كل وجبة إلى الاتحاد بين الرغبات والأطعمة التي نتناولها.

إنها إذن الكتابة المستحيلة التي تجيء إلى رؤوسنا وهي تحمل تحديها الكتابي الخاص طالبة منّا أن نتخلى عن كساحنا الإبداعي، ونلتحق بالكتابة الوعرة التي تؤجج المخيال وتمنحه كل هذه الندرة في الكتابة.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر