5 دقائق

دعوات الأسحار ونسمات الأخيار

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الليل فضاءٌ رحب للتنافس في الخيرات، والمسارعة إلى رضوان رب الأرضين والسماوات، فهو وقت السكن الروحي، والصفاء الذهني، والتفكير الإبداعي، ولذلك كان لله به عناية من بين سائر الأزمان، فنجده سبحانه يحث على قيامه بالثناء على المعتنين به، «كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ»، ويخص أبرك أوقاته «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»، وهو تخصيص بعد تعميم، لبيان أن للأسحار مزيّةً خاصة في الإقبال على الله؛ لأنها وقت التجلي الإلهي، والفيض الرباني لمن يمد يده إليه، متضرعاً بين يديه، وهكذا يجدد الله ثناءه على هؤلاء الأخيار، «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ»، ليشعر العباد أن لهم مندوحة كبيرة أن يكونوا محل ثناء الله تعالى، فليس بينهم وبينه إلا أن تقض مضاجعهم، وتتجافى جنوبهم عن سبات لا يفوت، ونوم لا يموت، أو عن سهرة يعقبها ندامة وحسرة، إلى خلوة فيها كمال الصفوة.

نعم إنه الوقت الذي لا يكون للنفس فيه حظ من رياء أو سمعة، ولا للشيطان فيه مدخل من فتنة، ولذلك جعله الله تعالى كله وقتاً للإقبال عليه، فليس فيه وقت كراهة، «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ»، أي ساعة بعد ساعة، فمهما أكثرت فيه من الساعات، فأنت في محل القبول وحصول المأمول.

الليل هو سلم الوصول لحصول المأمول، وتفريج الهموم، وكشف الكروب والغموم.

هكذا هو الليل عند من يعرف قيمته، ولذلك فرض قيامه على أحب خلقه إليه وأقربهم عنده، «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً»، فكيف بمن فيه من البعد ما فيه، ومن التقصير ما يكفيه، فما أحوجه لأن يقوم، ويتعرض لهبات الحي القيوم!

الليل هو سلم الوصول لحصول المأمول، وتفريج الهموم، وكشف الكروب والغموم، ومن الذي لا يعاني كل ذلك فضلاً عن بعضه؟! إلا أن الكثير لا يهتدي إلى هذا السلم الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». هكذا يعرض الغني الحميد فضله على عباده ليتناولوه بشيء من المجاهدة في وقت الغفلة.

فأين أهل السهر في الباطل والخوض في غير طائل؟ أين هم من هذا الميدان الفسيح والفضل المريح؟ ما لهم لا يحرصون عليه ويبتغون فضلاً من الله ورضواناً في أشرف الأوقات وأبرك الساعات؟ إنه لا يغفل عن ذلك إلا من أعرض عن أمر ربه وغفل عن آخرته، واغتر بسويعاته التي ستكون عليه حسرة إن لم يجعل لنفسه فيها عبرة.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر