أبواب

وجهٌ واحد.. وقصص كثيرة

محمد المرزوقي

يوصف بحر الرجز، أحد بحور الشعر العربي، بأنّه حمار الشعراء، وذلك لفرط سهولته، إذ يستطيع أي شاعرٍ أو شويعر أن يمتطيه بسهولة. فقد قال عنه الرافعي: «والرجز كثير عند العرب لسهولة الحمل عليه، حتى سماه المتأخرون حمار الشعر». ورغم أنّ الرافعي لا يحدّد هؤلاء المتأخرين، إلا أنّني أكاد أجزم أنّهم لو كانوا بيننا اليوم لجعلوا من القصّة القصيرة حمارًا للنّثر، كما جعلوا الرّجز حمارًا للشّعر.

فالقصة القصيرة أضحت مختبرًا رحبًا للتجارب، وصار كل من عرف كيف يمسك قلمًا وورقة (أو هاتفًا ذكيًا)، يظنّ نفسه مؤهلاً لدخول ملكوت الأدب عن طريق كتابة القصة القصيرة، وإذا كانت القصة القصيرة، بالفعل، مختبرًا خصبًا للتجارب الأدبية الجديدة والشابة، فإنها أيضًا قد تكون مجالاً فسيحًا للعبث/الشغب.

تكاد كل محاولة أدبية أن تبدأ بالقصة، لماذا؟ لجهل المحاولين أصولها وقواعدها، وظنًا منهم أنها سهلة المنال، وفي هذا السياق تقول إيزابيل ألليندي «القصة القصيرة بالنسبة لي جنس صعب كالشعر، ولست أظن أنني سأعود إلى محاولة كتابتها، اللهم إلا إذا سقطت علي من السماء».

القصة القصيرة إذًا هي محك الكاتب الجيد، وحتف الكاتب العادي، وإذا كانت القصة لا تتمنع على أحد، إلا أنها لم ترخِ عنانها إلا لمن عرف كيف يمتطي صهوتها، ففي القصة القصيرة لا مكان للعادي.

فبسبب تطفل العاديين على هذا الفن، أصبحت القصة القصيرة في العالم العربي مشلولة، وعاجزة عن اللحاق بغزارة وجودة الإنتاج القصصي في العالم.

من خلال هذا الأزمة الكبيرة التي تعيشها القصة القصيرة، لابد أن نشعر بفرح غامر، عندما نرى نتاجًا جديدًا يدعم قضيته. «وجهنا الواحد» المجموعة القصصية المشتركة بين القاصة عائشة الكعبي والشاعر محمد الهاشمي، إحدى هذه الدعائم. من الإطلالة الأولى على هذه المجموعة القصصية القصيرة جدًا، لابد أن نحس إحساسا لذيذا بأن هذين الكاتبين يريدان أن يقولا شيئا ما.

القصة القصيرة أضحت مختبراً رحباً للتجارب، وصار كل من عرف كيف يمسك قلماً وورقة (أو هاتفاً ذكياً)، يظنّ نفسه مؤهلاً لدخول ملكوت الأدب.

 بسبب تطفّل العاديين على هذا الفن، أصبحت القصة القصيرة في العالم العربي مشلولة، وعاجزة عن اللحاق بغزارة وجودة الإنتاج القصصي في العالم

فعائشة الكعبي فنانة تحكي لك القصة راغبة في إمتاعك، فبعد أن تحولت القصة على أيدي كتاب كبار إلى منابر للوعظ والنصح والإرشاد، أدخلت عليها عائشة الكعبي شيئا حيويا اسمه الذكاء، واسمه الظرف، واسمه الحيوية، فبينما تجد أن الصقيع يخيم على نصوص أكثر القاصين، تحس أن وراء كل كلمة عند عائشة الكعبي عبارة دافئة حلوة، ورموزٌ حية تكاد تقفز قفزا من فرط حيويتها. اقرأوا مثلا قصة «تحت أقدام الأمهات»، التي تقول فيها الكعبي: «عانق أمه مودعاً، وانطلق في رحلته الطويلة بحثاً عن الجنة. بكت الأم.. لكنها تركت له الباب موارباً، في حال قرر العودة إلى الجنة».

أما الشاعر محمد الهاشمي، فرغم أنها تجربته الأولى في القص، إلا أنه استطاع أن يجد له مكانًا فوق كثيرٍ من القاصين كفاءةً، وفنًا، وفهمًا للتكنيك القصصي وأبعاده الإنسانية!

ويبدو أن روح الشاعر كانت تتصارع مع روح القاص في داخله، فجاءت كثيرًا من نصوصه كأنها بيت من الشعر، كما في القصة الومضة التي جاءت تحت عنوان «الغريب»، حيث يقول فيها: «ما انفكوا يقولون.. ما الغريب إلا الشيطان، حتى بتُّ لا أرى إلا هو».

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر