مزاح.. ورماح

«بلوك» وبئس المصير!

أحمد حسن الزعبي

لم أكن أعرف أن خطّ يدي أصبح بهذا السوء، إلا عندما أمسكت بورقة وقلم ــ بعد طول غياب- وملأت فيها معلوماتي الشخصية في إحدى الدوائر الحكومية، فضلاً عن أن رسم الحروف كان رديئاً، والخط بشكل عام كان مائلاً وغير متناسق، فإنني واجهت مشكلة بالتنقيط وأحياناً بتقديم حرف على حرف، بسبب قلة الممارسة، حتى خيّل إليّ أن الراحل أبوأسود الدؤلي يوجه لي صفعة «بقفا يده» على وجهي، ستكون كفيلة بتركيب «سوفت وير جديد» لفكي العلوي.

الحقيقة لم تُعد مشكلتي محصورة في الكتابة، وإنما في القراءة أيضاً، فعصر السرعة لم يخرّب علاقتنا مع الورق، التي انتهت بـ«طلاق بائن بينونة كبرى»، وإنما قد لعب في عواطفنا وعقولنا ليزين لنا «زواج المتعة» من الإنترنت، التي صار المواطن العربي يقضي معها نحو خمس ساعات يومياً، وتقريباً مثل نصفها مع الهاتف الذكي، والعكس صحيح، ما يعني أن ثلث ساعات اليوم مخصص «للنافذة الإلكترونية»، الغارقة في النميمة والشتيمة والآراء الشخصية البحتة، والتزوير والتشهير والغرور، فبفضل العالم الإلكتروني الذي أصبح مصدرنا الشرعي والوحيد للمعلومة، بتنا نعيش في أمية ثقافية جديدة، إن لم تصدقوني افتحوا الـ«فيس بوك» والـ«تويتر» وتابعوا من يقرأ؟ لا أحد! الكل يكتب ولا أحد يكلّف نفسه القراءة، إلا في حالات المقايضة الإلكترونية «اقرأ لي بقرأ لك»، بدلاً من المثل الشعبي «حك لي تا أحك لك»، بمعزل عن من يكتب ومن يقرأ، هل يستطيع أحدكم أن يعطيني معلومة واحدة أو نصاً أدبياً واحداً علق في ذهنك، وقد قرأته من العالم الإلكتروني مباشرة؟ أعتقد سيتردد الكثيرون قبل الإجابة!

هذا لا يعني أن نلغي الفضاء الإلكتروني ونرجع إلى المصادر التقليدية للمعلومة، من كتب ومراجع ودوريات وأبحاث أبداً، لكن في الوقت نفسه يجب ألا ننسى الكتاب الذي عشنا مع ورقه أهم سنين النضج، وتغلغلت رائحة الحبر الطازجة في مسامات الذاكرة، الكتاب علمنا كيف تبنى الصداقة بين الحرف والقارئ، كيف تشتمّ رائحة القمح من قصيدة الشاعر، وكيف تحط على أيدينا لزوجة الطين في وصف الروائي، والأهم من كل ذلك علمنا «الورق» كيف نتقبل رأي الآخر، بروية ونردّ عليه بروية دون تشنّج أو نزق.

وبالنسبة للكاتب عندما كان ينتج نصاً أدبياً وينشره ورقياً، كان يعتقد أنه لم يعد ملكه بل أصبح ملك القارئ، يفهمه على النحو الذي تستوعبه مداركه، فلا يقوم بحراسته كما يحرس الراعي قطيعه، كما هي حال اليوم، على العكس تماماً، فقد كانوا يتقبلون وجهات نظر النقّاد بسعة صدر كبيرة جدّاً، اليوم معظم ما يكتب هو انطباعات شخصية أو «تنفيس»، أو انفعال لحظي على شكل نص، وما إن تحاول أن تختلف معه أو تشرح وجهة نظرك، حتى يشتمك ويخوّنك ويتهمك، ثم يعمل لك «بلوك» وبئس المصير.

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر