أبواب

نهر الراين وما شابه ذلك

يوسف ضمرة

الموسيقار روبرت شومان ألقى بنفسه في نهر الراين، لكنه لم يمت، ومات بعد ذلك في مصحة. صديقه وتلميذه برامز كان يحب زوجته عازفة البيانو الشهيرة، لكنه لم يتصل بها حباً إلا بعد وفاة معلمه.

مايكوفسكي مات انتحارا، وكذلك تيسير سبول وخليل حاوي وبطريقة أو بأخرى بوشكين.. ولن نعد كل من في القافلة لأننا سنحتاج وقتاً طويلاً، ناهيك عن الذي قطع أذنه أو الذي أطلق النار على صديقه الشاعر الآخر في محطة القطار.

أي معنى لذلك؟ وما الذي يجعل هؤلاء المبدعين يصلون إلى هذه الحال؟ هل يفقدون الثقة بالمستقبل حين يخذلهم الحلم مثلا؟

في بلد كالأردن نأتي بطبيب نسائية وتوليد وزيراً للثقافة، ثم نجرب طبيباً مختصاً بالعلاج بالإبر الصينية بعده. يخيل إليّ أحياناً أن الحكومات تظن الثقافة رجلاً مريضاً ولابد من علاجه أو قتله كما يقتلون الجياد المتهالكة. وحين جاؤوا بوزيرة كاتبة وإعلامية اعتقدنا أن هنالك من فهم الأمر على حقيقته، ليتبين بعد أيام أن اختصاصي النسائية والتوليد وخبير الإبر الصينية كانا أكثر واقعية مع الثقافة، فالسيدة التي نحترمها زميلة كاتبة وصحافية ومقدمة برامج تلفزيونية، اكتشفت أن عبء الموازنة، وارتفاع حجم المديونية ناجم عن ذاك الفتات الذي يسمونه مكافآت الكتاب، إضافة إلى تكلفة المجلات والتفرغ الإبداعي. فكان أن جمّدت ذلك كله رأفة بالخزينة والموازنة والعجز المتواصل. والسؤال الطبيعي بعد ذلك هو: لماذا تظل وزارة الثقافة موجودة إذاً؟ ولماذا تدفع الدولة رواتب وزير ومدير عام ومديري أقسام وما شابه ذلك من توابع كالسيارات ذات الأرقام الحمراء والمرور من الجمارك مثل «الشعرة من العجين» وغيره وغيره الكثير؟ ما معنى وجود وزارة ثقافة لا تريد أن تصدر مجلة ثقافية أو تنشر كتاباً أو تفرغ مبدعاً؟ لماذا لا نكتفي بالدبكة الشعبية فنرسل أفرداها ومستلزماتها إلى المهرجانات العالمية كما نفعل دائما؟ ولا بأس في مشاركة فرق شعبية للأقليات أو الأكثريات ـ لا فرق ـ التي تحفظ التراث من الضياع والتلفيق والتزوير؟

لست ضد التراث الفني الشعبي بالطبع، لكني لا أصدق أن وزارة الثقافة في بلادنا كانت مهتمة بالثقافة ذات يوم، فهي حتى عندما أقرت مشروع التفرغ وطباعة الكتب الإبداعية والفكرية وغيرها، وعندما حافظت على استمرار مجلة أفكار بالصدور، لم تكلف نفسها يوماً بتوزيع شيء مما تطبعه، فكتبنا تظل حبيسة المستودعات، وبعضها يذهب إلى مراكز الشباب، والأغلبية تذهب هدايا للأصدقاء والمقربين، وقليل منها لا يصل إلى القراء والمثقفين إلا بجهود أصحابها المتواضعة.

الآن يتحرك الكتاب والفنانون في الأردن رفضاً لما آلت إليه الأمور، وقد عقدوا العزم على عدم التراجع، ولكني أطمئنهم منذ الآن وأقول لهم: لا تتعبوا أنفسكم كثيرا، فقد تتراجع الوزارة عن بعض القرارات، لكن العطب كامن في فهم الحكومات للثقافة ودورها لا في ميزانية النشر والمجلات والتفرغ الإبداعي، سينشرون كتباً جديدة، لكنهم لن يجدوا وسيلة واحدة لتوزيع ما ينشرونه على الناس، لا لأن الوسائل مفقودة، بل لأنهم لا يفكرون في الأمر، ونحن ليس لدينا نهر الراين أو الدانوب لنلقي بأنفسنا في أيّ منهما.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر