أبواب

فن الطبخ

يوسف ضمرة

في مقالي السابق، كتبت عن الشاعر حين يستشرف المستقبل وهو يقرأ الحاضر. كنت أعرف أن الشعراء والكتاب والأدباء الحقيقيين هم من يفعلون ذلك. ولكني حقا فوجئت قبل يومين وأنا أقلب صفحات كتاب «شاهد عيان» للراحل الكبير محمد طمليه.. فوجئت بكم كبير من الكتابات التي تنطوي على هذا الاستشراف الطالع من قراءة الراهن بعين ثاقبة، ومن زاوية لا يعرفها الكثيرون، أو الأغلبية.

يكتب محمد طمليه مقالا بعنوان «طبق اليوم يؤكل غدا»، ومما جاء فيه حرفيا هذه الفقرة «الجنرال برايمر حاكما أميركيا في العراق.. العلم الأميركي يرفرف فوق نخلة، والجنرال المذكور يحب (السمك المسقوف) ولهذا السبب تحديدا اختارته القيادة لحكم هذا الجزء من العالم. كان ثمة خيارات، وجنرالات في منتهى الكفاءة على هذه البارجة أو تلك، ولكن الخيار وقع على برايمر للسبب أعلاه/ الرجل يحب السمك المسقوف، وهذا سبب وجيه/ في حين تم استبعاد الجنرال مايك لأنه يحب (الكبسة)، وجنرال آخر يحب (المسخن)، وثالث يحب (الكبة) والحلويات»، ويوجد في كتاب (فن الطبخ) وصفة (للمنسف)».

ويختم طمليه مقاله بالجملة التالية: «العلم يرفرف.. وها إنني أقلب صفحة في كتاب (فن الطبخ)».

كتب طمليه مقاله هذا إثر تعيين برايمر حاكما للعراق، كان ذلك في ‬2003، وما بين ذلك المقال وبيننا اليوم عقد كامل من السنوات، وعشرات وصفات الطبخ في كتاب «فن الطبخ» الأميركي.

منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، جرى انتقاء وصفات كثيرة أخرى، بعضها نضج، وبعضها الآخر لم ينضج بعد، لكن ناظم الغزالي لايزال يغني للعلم الذي لايزال يرفرف «أي شيء في العيد أهدي إليكِ يا ملاكي» وقد اكتشف كما يقول طمليه أنه أهدى العلم نجمة أخرى.

الكاتب ليس رجل سياسة بالمعنى المباشر أو الساذج، لكنه قادر على رؤية ما يحدث حوله وإلى أين تؤول الأمور، أكثر بكثير من جوقة نجوم الفضائيات ممن يكتبون تحت أسمائهم خبراء ومحللين وباحثين ورؤساء مراكز دراسات وما شابه ذلك. بعض هؤلاء يخرج علينا ليعزف لنا سيمفونية رغباته وأمنياته، والآخر يعزف مقامات أحقاده السياسية أو الطائفية أو المذهبية، والثالث يطربنا بـ«صولو» شوفيني لم يسمع به هتلر أو موسوليني، والكاتب العارف والقارئ والرائي مغيب تماما.

تذكرت أن دولة أوروبية فرّغت روائيا للتعليق على مباريات كرة القدم في كأس العالم. ذهل الناس من خبر كهذا، لكنهم بعد التجربة اكتشفوا أنهم سمعوا كلاما فنيا وجماليا لم يألفوه من قبل. وما أود قوله بإيجاز، هو أن إعلامنا بتشكيلاته كلها لايزال ساذجا وغبيا إلى حد كبير. فالمحللون السياسيون والخبراء لا يجزمون ولا يقطعون ولا يستخدمون لغة اليقين التي نحن مولعون بها كإعلاميين لا نتقن غير ترديد بعض ما نسمعه في الصالونات السياسية. بينما الكتاب والشعراء يعرفون الكثير، ولكنهم مثل زرقاء اليمامة لا يصدقهم أحد! وكيف يصدقونهم وهم يقولون إن الأشجار تمشي في البعيد؟ إنهم مجرد أصوات صارخة في البرية، تردد الجبال أصداءها التي تختلط فيها الكلمات ولا يتبينها المعنيون بالأمر، هل ظل ثمة من يعنيه الأمر أصلا؟ سوف أعود إلى كتاب محمد طمليه «شاهد عيان»، علني أكتشف «طبخة» جديدة في كتابه «فن الطبخ».

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر