أبواب

سفينة ماركيز التي على اليابسة

يوسف ضمرة

يقول ناقد إسباني: إننا سنفكر كثيراً في مشهد السفينة على اليابسة في رواية ماركيز «مائة عام من العزلة»، لماذا نفعل ذلك؟ نحن قطعاً لن نفكر في نوعية الخشب، ولا في الطريقة التي أوصلت السفينة إلى اليابسة، نحن حتماً سنفكر في الناس الذين جاؤوا بهذه السفينة، من هم؟ ولماذا أتوا؟ وماذا كانوا يريدون؟ وبهذه الأسئلة سنقف على حقيقة الدور الذي لعبه الاستعمار الإسباني في أميركا اللاتينية.. دوافعه وآثاره الماثلة إلى اليوم.

وربما ينطبق الأمر نفسه على مشهد آخر في رواية «الأشياء تتداعى»، للكاتب النيجيري «غينوا أتشيبي»، ذاك المشهد الذي يصور صدمة الإفريقي برؤيته الدراجة النارية للمرة الأولى، فلربما يفكر أول الأمر في الدراجة النارية أداة شيطانية، لكنه، آجلاً أم عاجلاً، سيفكر في من أتى بها، وفي أهدافه ومطامحه ومطامعه.

للأسف الشديد، فالجماهير لا تقرأ الروايات، نعم ثمة شريحة تضيق كلما اتسع الفقر وكبرت الفجوة بين الطبقات، وهذه الشريحة في تضاؤل مستمر في العالم العربي، في ظل صعود الإسلام السياسي، الذي يشكل ملاذاً لكثير من الشباب العاطلين من العمل، الذين يعانون الفقر والبطالة والتهميش وسوء الحال. هؤلاء سيتوجهون بإرشاد مدروس إلى كتب ومراجع محددة، يأخذون منها المعرفة، وأنا لست ضد قراءتها، لا هي ولا سواها، شريطة أن تكون خيارات القراءة مروحة كبيرة بفراشات كثيرة.

صحيح أن ما نريد معرفته ليس موجوداً فقط في الروايات والأدب، لكن الأدب كان يعرّف ذات يوم على أنه أرقى أشكال الوعي الاجتماعي، وبصرف النظر عن الأخذ بهذا التعريف كله، إلا أن فيه الكثير من الوجاهة والصحة، فقيمة الأدب فناً تنبع من قيمته المعرفية وقيمته الجمالية، والقيمة الجمالية هي التي تسهم في تقبلنا المعرفة الموجودة في الأدب.

لكن، علينا أن ننتبه إلى حقيقة جوهرية، وهي أن النخبة الثقافية والسياسية غالباً ما تقرأ الأدب، وهي التي على عاتقها يقع دور توجيه الناس والتأثير فيهم. ولن ننسى ما قاله جمال عبدالناصر ذات يوم عن رواية «عودة الروح»، للكاتب توفيق الحكيم، عندما عد تلك الرواية أحد مصادر إلهامه للقيام بالثورة المصرية.

وبالعودة إلى ماركيز و«مائة عام من العزلة»، فإنني أتساءل: هل فكر ماركيز في ذلك؟ أم أن الناقد الإسباني هو الذي فعل؟ هذا السؤال يقودنا إلى القول إن الكاتب ليس مضطراً للإلمام بالأفكار كلها عند الكتابة، فهنالك قارئ يقظ دائماً، مستعد لتلقف هذا الثرد الأدبي، وتفكيكه من داخله، من دون أن يسقط عليه رؤيته أو رغباته.

ومن يتصفح الروايات العربية التي صدرت منذ السبعينات من القرن الماضي في الوطن العربي، والقصص والقصائد، سيفاجأ بتلك النبوءات الكامنة فيها، التي تصور ما يحدث اليوم بشكل أو بآخر، فالأدب لم يكن طوال هذه السنوات والعقود بمعزل عن هموم الناس وهواجسهم، لكنه ربما لم يكن يملك توقيتاً ولا شكلاً محدداً لما ستؤول إليه الأمور، وبطريقة أو بأخرى أؤكد أننا جميعاً نتحمل مسؤولية ما، تتفاوت في حجمها بين شريحة وأخرى. فنحن ـ أقصد المثقفين ـ لم نمتلك زمام المبادرة يوماً لكي نقوم بدورنا خارج حدود الكتابة، وتركنا الأمر رهناً لأيدٍ لا تجيد العزف، فكان حتمياً أن يعلو النشاز!

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر