مزاح .. ورماح

أجرّ الصوت

أحمد حسن الزعبي

قبل الفجر بساعة تقريباً، كان يمر الهندي (جورج) بشاحنته الكبيرة إلى سكني في حي الملز/الرياض، يأخذني في طريقه إلى فرع الشركة للإشراف على توزيع الصحف حسب خطوط المبيعات، وما إن يصل (جورج) إلى مبنى الفرع في الظلام، حتى يطلق زاموراً متقطّعاً يخرج على أثره جميع الهنود مندوبي التوزيع «بوزراتهم» متسابقين على إنزال حمولة الشاحنة من الصحف القادمة للتو من المطابع.

كانت أول وظيفة أقوم بها في حياتي، وشاء القدر أن تكون الوظيفة الأولى التي لا يمكن تصنيفها بالوظيفة الليلية أو النهارية، فهي نصف ليلية ونصف نهارية، حيث يبدأ العمل الساعة الثالثة صباحاً وينتهي عملنا الساعة العاشرة صباحاً،

ترى ما الذي يستطيع أن يقوم به شاب غريب مثلي للمرة الأولى حين يتسلم مهمة رسمية؟ كل ما كنت أفعله أن أتثاءب واضعاً يدي خلف ظهري كما يفعل المشرفون عادة، بينما يُنزل العمال الجرائد ويبدأون عَدّ الُّنسخ وتصنيفها، وتوثيقها بفواتير، ثم يأتي إليّ أحدهم واسمه (جينيه) على ما أذكر: «أرباب رياض ‬76» «مدينة ‬55» «جزيرة ‬63» «عكاظ ‬44»، زين؟ فأقول له: «زين.. زين»، فيأخذ بضاعته إلى «الوانيت» الخاص به، وأنا أعود للتثاؤب مرة أخرى،

في الأسبوع الأول كنت متوجساً من سائق الشاحنة (جورج)، رأسه كبير، قليل الكلام، يقود شاحنته بسرعة هائلة في شوارع الرياض الخالية ساعات الفجر، لذلك كنت أصطبر على رائحة «الكاري» وعلى «كاسيت» الأغاني الهندية، الذي كان يضعه في رحلتنا التي تستمر نصف ساعة من السكن إلى الفرع، لكن بعد أسبوع تجرأت ومارست على (جورج) سلطاتي الدستورية كأي أرباب: أخرجت كاسيت لعبدالكريم عبدالقادر ووضعته في مسجل الشاحنة فلم يعترض (جورج)، وما إن وصلت الفرع حتى أخرجت الشريط ووضعته في جيبي ثم بدأت أطلق زفرات التثاؤب كالعادة والمشي تحت النخلة، بينما العمال ينزلون الحمولة ويُحصون أعداد الصحف ويشهدونني على شيء لم أره ولم أراقبه حسن المراقبة بسبب النعاس وقلة الخبرة.

مع مرور الوقت صار واحداً من طقوس (جورج) كلما حضر إلى سكني أن يخرج شريطه الهندي من المسجل ويستبدل به شريط عبدالكريم عبدالقادر، وإذا ما نسيت أن أفعلها بسبب النوم أو «السرحان» كان يقول لي: (وين.. صوت.. صوت) ويقصد شريط أجرّ الصوت.

بعد ستة أشهر التقيت بزميل سوداني كان مشرفاً ـ مثلي ـ على أحد فروع الشركة في المنطقة الغربية، سألته عن الوظيفة وتدرجها وحسناتها من باب الفضول، لأكتشف أن الرجل منذ عشرين عاماً مازال مغموساً في الطقس «الستاتيكي» ذاته مكانك سر، يصحو قبل الفجر بساعة، يتثاءب عند الوصول لعمله، ثم يمارس المشي في باحة الفرع، وهو يضع يديه خلف ظهره كما يفعل المشرفون، طبعاً من دون أن يتأكد من عدد الصحف أو من أسمائها، ليعود إلى بيته عند العاشرة صباحاً.

آنذاك أطلقت على وظيفتي مسمى الوظيفة «الوزرة» لكثرة ما شاهدت من «وزرات» متعددة الألوان والمقاسات أولاً، وثانياً لأن الوظيفة لا تغطي الليل كله ولا تكشف النهار كله، وثالثاً لأن راتبها «يستر» الحال لكنه لا يكسو كامل الشهر، لذا قدمت استقالتي وعدت إلى بلدي، بينما شريط «أجرّ الصوت» على ما أعتقد مازال يصدح حتى اللحظة من الملزّ إلى «النسيم».

سألني بعض الأصدقاء بعد عودتي من أول اغتراب، ماذا استفدت من غربتك القصيرة التي استمرت ستة أشهر وأسبوعاً؟ قلت لهم: فقط عرّفت (جورج) إلى عبدالكريم عبدالقادر، وعُدت.

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر