أبواب

زياد العناني صاعداً الجبل

يوسف ضمرة

حين أصيب الشاعر الأردني زياد العناني بجلطة دماغية قبل نحو عامين، عاد إلى منزله يعاني آثارها المقيتة، التي منعتني حتى اليوم من رؤيته.. كيف يمكن رؤية زياد العناني عاجزاً عن ارتكاب الشغب والمشاكسة؟ لست وحدي من اتخذ هذا الموقف، فمعظم الكتاب من أصدقائه لم تطاوعهم قلوبهم في رؤيته على هذا النحو. وقد علمت أخيراً، قبل أيام فقط، أن زياداً نفسه لا يرغب في هذه الزيارات أيضاً.

زياد خضع قبل أيام قليلة إلى عملية جراحية أسفرت عن بتر ساقه.. يا إلهي! هل ظن الشلل القبيح أنه قد يضعف أمام حب زياد للحياة؟ هل حاك له مؤامرة تقضي بقطع ساقه لكي يقتل ما تبقى لدى زياد من أحلام خجولة في العودة إلى الشوارع؟

لا تكتمل قصيدة زياد من دون معرفته شخصياً والاستماع إليه. هذه حالة ربما نادرة. لا أقصد أن شعر زياد غير مفهوم أو أن قيمته الجمالية تقلّ من دون معرفته، ولكني أقصد الحالة الشعرية عند زياد العناني.. رؤيته الشعرية للحياة. هذه تحتاج إلى معرفة زياد من قرب، وأزعم أنني واحد ممن نالوا هذا الشرف وارتكب هذه الخديعة أيضاً!

زياد العناني فهم الحياة شعرياً، فتعامل معها كقصيدة شعرية. فكان مشاكساً عابثاً صاخباً مشاغباً مثل قصيدته تماماً. زياد لم يكن شاعراً كالآخرين. لم يكن معنياً بتزويق الحياة، ولا بالغزل في امرأة على طريقة الشعراء العاديين. كان صادماً ومفاجئاً في كل ما كتب من شعر (هو مال مثل غصنٍ/ أثقلته/ العصافيرُ/ ثم بكى/ هو/ رجل أعزل../ كان مهتماً بالندى).

(كنا معاً/وكنا كاملين/والآن/ أكتب قصة النقص/بقلب ذائب.. ليس لي نار/ وقودها الناس/ وليس لي سوى قميص/ مبلل بالعرق/ ويد/ معبأة/ بالخسائر والجروح..)

كنا معاً وكنا كاملين، والآن أكتب قصة النقص بقلب ذائب.. يا إلهي!

زياد العناني الذي ليس له سوى قميص مبلل بالعرق، ظل في منزله راقداً من دون رعاية أو اهتمام حقيقيين. لم ترسله الحكومة إلى خارج البلاد بمرافقة العائلة، كما تفعل مع الأثرياء. فالرعاية في بلادي ليست للفقراء ومن لا يملكون سوى قميص مبلل بالعرق. ولم يلقَ الاهتمام الإعلامي الذي يليق به ويستحقه كشاعر كبير مجدد ومختلف. زياد الذي لا سند له سوى قصيدته المشاغبة، كان يركض من ندوة إلى أخرى ومن أمسية إلى أخرى لكي يكتب شيئاً عادياً في صحيفة يومية، ليطعم عائلته. لم يفز مثل أشباه شعراء وأشباه قصاصين وأشباه روائيين بمركز مستشار في الإذاعة أو التلفزيون أو وزارة الثقافة أو حتى وزارة النقل. بينما غيره ممن لهم عباءات خلفهم كانوا ومازالوا يهبطون بالمظلات على مواقع وظيفية رسمية لا تطعم عائلاتهم فحسب، وإنما تقودها إلى مزيد من الفساد والإفساد. حتى على مستوى العمل الصحافي ظل زياد مهمشاً، لأنه لم يكن ممن يخبئون ذيولهم ويستخرجونها حين يلزم الأمر. كان حراً وطليق الروح ولا يرى في هؤلاء سوى فزاعات لإخافة العصافير. وهو طير محلق لا يخاف الفزاعات ولا يحسب لها حساباً، فظل شاعراً جوّالاً بقميصه المبلل بالعرق إلى أن قضى المرض، أخيراً، على بقية حلمه في العودة إلى تجواله.

زياد العناني.. أيها الصاعد حاملاً صليبه.. لك المجد.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر