صناعة التعليم

الاقتصاد المعرفي

د. عبداللطيف الشامسي

يتم تداول مصطلح الاقتصاد المعرفي بشكل كبير في الآونة الاخيرة، فما مفهوم هذا المصطلح ودوره في تحقيق التنمية الشاملة؟ هذا ما سوف نتناوله في هذا المقال، فمنظومة الاقتصاد المعرفي تعد المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي في العصر الحالي، والتي يتم من خلالها توظيف المعرفة والتكنولوجيا في تقديم مُنتجات أو خدمات متميزة ومبتكرة، يُمكن تسويقها وتحقيق الانتعاش الاقتصادي من خلالها، لذا فإن الاقتصاد المعرفي يقوم بتحويل المعرفة إلى ثروة تفوق قيمتها في معظم الأحيان قيمة الثروات الطبيعية.

ويستند الاقتصاد المعرفي إلى أربع ركائز أساسية هي: (‬1) الابتكار الذي يستند إلى البحث والتطوير من خلال نظام فعال يربط مؤسسات التعليم بالمؤسسات الصناعية بغية التطوير المستمر. (‬2) البنية التحتية المبنية على تقنيات المعلومات والاتصالات، والتي تسهل تجهيز المعلومات والمعارف ونشرها وتبادلها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية. (‬3) الحاكمية التي تقوم على أسس اقتصادية قوية تستطيع توفير كل الأطر القانونية والسياسية التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية والنمو. (‬4) التعليم وهو العامل الأهم والأساسي في الإنتاجية والتنافسية الاقتصادية.

لذا نجد أن مفهوم الاقتصاد المعرفي لا يقتصر تحققه على توافر أحد عوامله كالبنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات والاتصال والتقنيات الحديثة فحسب، بل هو منظومة متكاملة من العناصر الواجب توافرها والتي من أهمها الموارد البشرية المؤهلة ذات المهارات التقنية العالية، والتي يعتمد بناؤها على نشر ثقافة الإبداع والابتكار، من خلال نظام تعليمي متين وفعال ذي مخرجات منسجمة مع متطلبات النمو في الدولة، وانطلاقاً من هذه الحاجة الملحة تتوجب إعادة صياغة منظومة التعليم الحالية بما يلبي حاجات الوطن وطموحاته في بناء مجتمع الاقتصاد المعرفي المتكامل والذي يراعي خصائص جيل «الآي باد» لجعل التعليم أكثر متعة وإبداعاً.

ولتوضيح مفهوم الاقتصاد المعرفي نورد مثالاً لشركة «أبل» ذات الصيت التقني المتميز، والتي تعد أكبر شركة من حيث القيمة السوقية في التاريخ الصناعي الحديث، حيث تجاوزت قيمة أسهمها ‬623 مليار دولار خلال أغسطس لعام ‬2012 في سوق المال الأميركية (وول ستريت)، متخطية بذلك كبرى شركات العالم في مجالات النفط والغاز والسيارات والعقارات، فالثروة المعرفية - من اختراعات وابتكارات - أثبتت وبكل جدارة أنها أغلى من الثروات الطبيعية وغيرها، لذلك نجد أن أجهزة الهواتف الذكية على سبيل المثال تباع بآلاف الدراهم في حين أن قيمة المواد الخام المصنوعة منها هذه الهواتف مثل الزجاج والبلاستيك تقدر ببضعة دراهم، ومن ثم فإن القيمة الحقيقية تكون في المعرفة والتقنية التي تشغل الجهاز وليس المواد الخام.

لقد أدرك الجميع أن مصير الأمم مرهون بإبداع أفراد مجتمعاتها، وأن مدى التحدي هو الاستجابة لمشكلات التغيير ومتطلباته، فتغيير النظام التعليمي هو المشكلة وهو الحل، فهو المشكلة إذا بقي النظام من غير تغيير أو كان التغيير من غير رؤية واقعية، فالعجز عن حل المشكلة سيؤدي إلى الفشل المحتوم مهما توافرت الموارد الطبيعية والمادية، وهو الحل إذا حصل التغيير المناسب وتوافرت الرؤية المتوافقة مع الواقع.

ومن هنا نجد أن هناك حاجة ماسة إلى إحداث نقلة نوعية حقيقية في النظام التعليمي، وهي النقلة التي يمكن وصفها بأنها الثورة الشاملة لتطويرالنظام التعليمي، والتي عندها تتوارى أهمية الموارد الطبيعية والمادية، وتبرز المعرفة كأهم مصادر القوة الاقتصادية وتصبح عملية تنمية الموارد البشرية التي تنتج هذه المعرفة وتوظفها، العامل الحاسم في تحديد القدرات المهاراتية والوظيفية، وهكذا تتداخل عمليتا التنمية والتعليم إلى حد يصل إلى شبه الترادف، ويصبح الاستثمار في مجال التعليم أكثر الاستثمارات عائداً، بعد أن بلغت صناعة «رأس المال البشـري» قمة الهرم في عصر الاقتصاد المعرفي بصفتها أهم صناعات عصر المعلومات على الإطلاق، لذا فإن عملية بناء رأس المال البشري في منظومة الاقتصاد المعرفي يجب أن تبدأ من مرحلة رياض الأطفال التي يتم خلالها تأسيس مهارات التفكير الناقد وأساليب البحث العلمي، وغيرها من مهارات التواصل والعمل الجماعي التي تؤسس في النشء حب الإبداع والابتكار، وهو الأمر الذي نضمن من خلاله تخريج أجيال جديدة من الكوادر الوطنية المؤهلة القادرة على صناعة الاقتصاد المعرفي ذاته.

ومع أهمية بناء مجتمع الاقتصاد المعرفي نجد أن جميع دول العالم وشعوبه تتحرك نحو الاتجاه الصحيح لمفهوم الاقتصاد المعرفي المشار إليه، كما أننا في دولة الإمارات العربية المتحدة أحوج ما نكون إلى التعامل مع هذه المتغيرات العالمية، خصوصاً في ظل المشروعات التنموية الضخمة ذات التقنيات العالية التي تتطلب الكوادر الإماراتية المؤهلة لإدارة وتشغيل تلك المؤسسات، فنحن في دولة الإمارات نطمح إلى تحقيق مزيد من التكامل مع الاقتصاد العالمي، حيث يوجد التزام راسخ ببناء اقتصاد مستدام ومتنوع وذي قيمة مضافة عالية.

ولَئِنْ كانت المؤسسات المختلفة في الدولة مطالبة بالتميّز ومواكبة التطور ودعم جهود النهضة الاقتصادية، فإنّ المؤسسة التربوية والتعليمية هي الأولى بمثل هذه المطالبة، إذ إنها المسؤولة عن إعداد جيل قادر على استيعاب تطورات العصر والتعامل معها، حتى يمكن للجيل الجديد أن يأخذ دوره الأساسي والوطني المؤثر في منظومة الاقتصاد المعرفي خلال القرن الحادي والعشرين.

Abdullatif.alshamsi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر