مزاح.. ورماح

ابتزاز.. مصالح.. تعنّت

أحمد حسن الزعبي

واحدة من مجمل نصائح كثيرة نصحني بها شركائي في الشقة في أول يوم لوصولي إلى السكن عام ‬1999، هي أن أتعامل مع دكانة صغيرة مسقوفة بالزينكو تحمل اسم «بقالة الشعب» مملوكة لعجوز إيراني وشقيقه.. فلديهما أربعة صبية لتوصيل الطلبات إلى الشقق، بالإضافة إلى أمانتهما وحسن تعاملهما مع السكان، بعكس بقالة «دانيلو» التي يديرها أحد الهنود فهو بطيء بالتوصيل ويلعب في الأسعار ولا يعيد «الباقي».. ثم قال أحدهم وأنا أخلع جوربي المنقوع في مسافات السفر: هذا رقمهم مكتوب فوق سريرك، فقط عندما تريد أن تتصل بهم، قل لهم «شقة المهندس ‬202»، وسيأتون إليك بطلباتك قبل أن يرتد إليك طرفك، ثم فهمت أن سبب تسمية الشقة بهذا الاسم يعود إلى أول المستأجرين فيها «المهندس إياد وضيف الله»، وقبل أن يغادروا جميعاً غرفتي ويتركوني أغفو على صورة أمي التي تركتها قبل ساعات وهي تبكي، نبهني إياد: تأكد دائماً من إغلاق باب الشقة بالمفتاح، في المنطقة جنسيات مختلفة! ابتسم وأطفأ ضوء غرفتي متمنياً لي ليلة سعيدة!

بقيت متمسكاً بالنصيحة حتى بعد أن ترك جميع «السكان الأصليين» الشقة وبقيت وحدي، وبالفعل طوال أربع سنوات بقيت أتعامل مع بقالة «الشعب» للعجوز الإيراني «ما شاء الله»، أتصل به عند الحاجة.. ثم من باب الرشوة أسأله عن منتخب إيران وعن «علي دائي»، و«خودادا عزيزي»، ليسرّ قليلاً ويحضر لي ربطة خبز طازجة أو علبة لبن حديثة الإنتاج.. لا تنسى حجي: «مهندس ‬202»، فيقول: «حااااازر/حاضر».. وما أن أغلق سماعة الهاتف حتى أجد طلبي على باب الشقة، فأدفع له نقداً ويغادر.

عند رحيلي عن الحي ‬2003، اكتشفت أن الحج «ما شاء الله».. يطالبني بـ‬500 درهم بدل سلع مشتراة عن آخر شهرين، وعندما احتددت قليلاً وقلت له: إني كنت أدفع ثمن مشترياتي نقداً وذكرته بالمواقف جميعها، بدأ حواراً بـ«الفارسي الفصيح» بينه وبين ابنه مجيد ثم شرح لي ملخص ما دار بينهما لاحقاً، حيث اكتشفت أن الرجل كان يسجل على حسابي، كل طلبات الإخوة العرب الموجودين في الحي، فأي شخص عربي يطلب شيئاً يسجله على ذمة «المهندس ‬202»!

رغم الجنسيات الكثيرة التي كانت تعج بها البنايات المكتظة في حارتنا، إلا أن ثلاث جنسيات لفتت انتباهي: صاحب «دكانة الشعب» الحج الإيراني، وجار «أوروبي غريب الأطوار لا أعرف جنسيته بالضبط»، إذ كان يبتسم لي من مدخل البناية إذا كنت أهم باستقلال المصعد لأنتظره، بينما يتجاهلني تماماً إذا همّ هو بالصعود، كما لفت انتباهي أخيراً الجرأة العالية و«التعنت» الكبير للقادمات بتأشيرة سياحية من الجنسية «الروسية»، حيث أفشلن جهود كل فرق المباحث ودوريات الآداب العامة في المدينة، لإجلائهن من الشقق السكنية والتجمعات العائلية،وبالتالي كلما تكثفت الحملات على أوكارهن كلما «تكشّفت» تلك الفتيات، وازددن إصراراً على الظهور بالملابس السياحية.

لا أعرف لماذا برز ثالوث الجنسيات وأنا استحضر إحدى محطات غربتي عند كتابة هذه المقالة.. ربما لأنني كنت أعيش ملخّصاً «مدفوع مقدما» للواقع السياسي العربي الراهن..

«ابتزاز إيراني»، «مصالح أوروبية» و«تعنت روسي»..

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر