أبواب

الكذب والتطور الفني

يوسف ضمرة

تشير متابعتنا وسائل الإعلام المرئية إلى أن هذا الحقل يقترب من حقول الإبداع الأدبي، خصوصاً في السرد، فالروائيون يكذبون، كما يقول إلياس خوري، ليقولوا الحقيقة. قد تبدو الجملة ملتبسة بعض الشيء، لكن التمعن فيها يجعلها مطواعة وليّنة، فالكذب هنا لا يعني الكذب المتعارف عليه، وإنما هو ما يجترحه الخيال من حكايات ووقائع وشخوص قادرة كلها معاً على إيصال فكرة معينة، أو فتح الطريق أمام القارئ كي يرى العالم من زاوية أخرى.

والإعلام المرئي وصل إلى هذه المرحلة، فصار في استطاعة فريق إعلامي أن يصنع مسرحاً ويصوره ويقدمه للناس سارداً ما فيه على أنه واقع موضوعي، وهذا تطور نوعي في الإعلام، على الرغم من اعتماده الكذب وسيلة أساسية لخلق مشهد افتراضي، لكن الكذب الإعلامي محبوك ليوجه الرأي العام نحو موقف بعينه في لحظة محددة وفي مكان محدد، وهو ما يختلف عن الكذب السردي في الأدب، الذي لا يرتبط بهذا كله، وإن بدا أحياناً كذلك.

الكذب الإعلامي المرئي وسيلة رخيصة من وسائل حرف الحقيقة، بينما الكذب السردي وسيلة من وسائل قول الحقيقة، والكذب الإعلامي لا يقوم به مبدع أو شخص واحد، وإنما هو نتاج عمل فريق كامل من المعد إلى السيناريست إلى السارد إلى المصور والمنتج والمخرج، وفوق هذا وقبله وبعده إدارة القناة التي تتبنى موقفاً معيناً ترغب في تسويقه كحقيقة موضوعية.

قد يبدو الأمر في جانبه الأولي سيئاً، لكني أراه على المدى البعيد تطوراً فنياً يخدم الإعلام والسرد والفنون كلها. فعلى المعد مستقبلاً أن يتمتع بفكر متوقد، وخيال متوهج قادر على ابتكار صورة مقنعة، قادرة على الإيحاء بما هو موضوعي، وعلى الكاتب أن يتمتع بمقدرة فنية على الصياغة المرافقة للصورة، ما يعني أن عليه ألا يكتفي بتقرير إخباري جاف بلا مؤثرات بلاغية ومجازات لغوية قادرة على الإيهام والإيحاء أكثر من قدرتها على القول المباشر.

هذا يعني أن الكاتب، خصوصاً السارد، سيتأثر بهذه المشهدية المعبرة، وهو ما سينتقل إلى الكتابة السردية أكثر من قبل، بحيث تصبح المشهدية عنصراً رئيساً من عناصر السرد. صحيح أنها كذلك في بعض الكتابات، إلا أنها ـ الكتابة السردية ـ تتخلى كثيراً عن هذه المشهدية لمصلحة الإخبار ونقل الوقائع، أي أن الإعلام المرئي تمكن من سبق السرد في اعتماده على المشهدية، بدلاً من التقرير الوقائعي المباشر الذي لاتزال كثير من الكتابات السردية العربية واقعة فيه أو أسيرة له.

هل هذا يعني الدعوة من هنا إلى تلاقح الفنون واختلاطها وانفتاحها بعضها على بعض؟ ليس الأمر كذلك، لا لأنه غير محبذ أو مرفوض، وإنما لأن مثل هذه الدعوة ليست جديدة، ولسنا هنا لكي نعيد تجديدها، لكننا فقط نود التحذير من عملية الانفتاح التي ينادي بها البعض، والتي تتسبب في إلغاء جنس أدبي أو نوع فني لمصلحة آخر، فالتطور في الأجناس الأدبية شيء، والعمل على تخريبها شيء آخر، فربما يكون الهدم ضرورياً للقيام ببناء جديد، لكن الهدم المعنيّ لا يعني هدم الجنس، بل هدم شكل فني لبناء آخر، وهذا هو ما يجعلنا نقول بالتطور السردي الذي سيحدث من خلال تطور الإعلام المرئي، لكن سيظل كل من النوعين متفرداً بخصوصيته التي تشكل بصمته، مهما بلغ من التطور.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر