أبواب

مفاتيح الفنون

يوسف ضمرة

من أردأ أنواع النقد، هو ذلك الذي يلجأ إلى تلخيـص العمل الفنـي أو الأدبـي واختزاله في سطور عدة، وهو نقد لا يغوص عميقـاً ليرينا ماذا حدث وكيـف، ولماذا لجـأت الشخـوص إلى هذا الفعـل دون سـواه، وهو نقد لا يلتـفت إلى البنيـة الفنية، وكيفية بنائها وحبكها وصوغها في الشـكل الذي وردت عليه، ومثل هذا النقد إنما يلجأ إليـه العاجزون عن إدراك ما أشرنا إليه.

هؤلاء حنطوا أنفسهم وذائقاتهم الجمالية عند مرحلة زمنية محددة، ولا يريدون الخروج منها، متناسين أن الفن في تطور مستـمر، ما يعني أن آليات التعامل معه تتـطور هي الأخرى وتتـغير، ويبدو أن أكـثر هؤلاء ينتمـون إلى كتـيبـة الأكاديميين في الجامعات، وهم الذين اكتفـوا بنيل الشهـادة العلـيا، وأخذوا يلقنون طلبتهم ذلك النقد الذي تعلمــوه قبل عقود، من دون أن يفكـروا في الاطلاع على الفنـون الحديثة، واختلافـها في التكنيك والبنيـة والرؤية عن سـابقاتها، ما يعني ضرورة اختلاف وسـائل الولوج إلى هذه العوالم الجديدة المتغيرة.

يصـرّ بعضهم مثلاً على اعتبار ضمير المتكلم في السرد مأخذاً، لأنه يغري بالبوح والانثيال، ولا يعرف هؤلاء كيف تمازج الكاتـب والراوي، وكيف تحول الكاتـب من ذات إلى موضوع، وكيف يجرد الكاتـب من ذاته شخوصـاً مرآوية أحياناً، وكيف يتحدى الكاتب أحياناً سلطة النص لكي يقول: نعم أنا الذي يكتب الآن رواية ما.. هكذا تصبح لدينا روايتان لا رواية تقليدية واحدة يرويها ضمير الغائب المحبب لدى أدعياء النقد هؤلاء.

ولو لم يتطور الفن في هذا السياق، لظل العالم أسير الكلاسيكيات العالمية في الأدب والرسم والنحت، وكلما تطور الفن كان لابد من تطور موازٍ للنقد، الأمر الذي لا يريد كثير من الأدعياء الالتفات إليه أو العناية به، وهو أمر لم يعد مجدياً، فلطالما وقف المحافظون ضد شعر التفعيلة الذي خرج على وحدة البيت الشعري، لكن قانون التطور في الحياة هو الذي انتصر في النهاية، وهو ما يحدث الآن مع قصيدة النثر التي رسّخت أقدامها، ولم يعد مجدياً الحديث في شرعيتها أو أحقيتها في دخول عالم الشعر.

نستطيع الحديث مطولاً في تطور الجنس أو النوع من داخله، لكـننا لا نستطـيع وقف هذا التطور، ومن واجب النقاد الحقيقيـين أن يبحثـوا في هذا التطور، وفي مسـوغاته وتجليـاته، ومدى قدرته على استيعاب القضايا الإنسـانية بطريقة ربما تكون مغايرة لما ألفناه في الفنون التقليدية، هذه مهمة الناقد، لا تحنيط الذائقة الجمالية عند مرحلة محددة، ولا تلخيـص العمـل الفني ولا اختزاله، بل يمكن القول بثقة، إن التلخيص لم يعد ممكناً في الفنـون الجديدة، بالنظر إلى ما تختزنه من مفاهيـم وأفكار غير بارزة، وإنما هي موجـودة بقـوة في ما نسميه بالمسكـوت عنه في النص، أو في الدلالات المتغـيرة بتغير القارئ والزمن.

النقد الجديد والمتطور، يفاجئ الكاتب نفسـه في كثير من الحالات، لأن الكاتب الآن مهجوس بكثير من الأفكار والمفاهيم الغامضـة، ومهمة الناقد أن يفك بعض هذا الغموض، ويدلنا على الطريق السـليمة للدخول إلى العالم الفنـي، أي أن يزودنا بمفاتيح الأبواب المقفـلة أمامنا في الفنون، لكي نتمـكن من الوصول إلى أرقى أشـكال الإدراك الجمالي، والحصـول على معـرفة ما كانت ممكنة من دون هذه المفاتيح النقديـة.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر