أبواب

اكتب ما تحب

يوسف ضمرة

لم يكتب فلوبير رائعته «مدام بوفاري» من فراغ.. هو يقول عن نفسه: أنا إيما بوفاري. وغالب هلسه يقول: أنا بطل أعمالي كلها. هل يعني ذلك أن الكاتب لا يكتب إلا عن نفسه؟ وهل زوربا هي مذكرات «نيكوس كازانتزاكيس»؟ هذه أسئلة برسم الكتاب والنقاد والقراء معاً. فماركيز كتب روايات بأبطال وشخوص عدة مختلفة ومتباينة. ونجيب محفوظ فعل ذلك، وكازانتزاكيس أيضاً. أي أن مدام بوفاري ليست صورة فلوبير الفوتوغرافية، وهي حتماً ليست مذكراته أو يومياته. فلماذا يقول إنه هو «إيما بوفاري»؟

في شكل أو في آخر، يبدو كل عمل هو صاحبه، ولكن العمل الذي هو صاحبه، لا يعني أن كل كاتب يكتب تجربته وحكايته الذاتية. ولو كان الأمر كذلك لاكتفى كل كاتب برواية واحدة أو بمذكرات شخصية.

هنالك ما يسمّيه علماء النفس بالرواية الأسرية، وهي رواية كل فرد على حدة. وهذه الرواية تعتمد في المقام الرئيس على نمو الشخص منذ الطفولة، وعلاقته مع والديه أولاً ومع محيطه ثانياً، واستيقاظه على غرائزه وأحلامه ورغباته، واصطدامه بكل ما يعوق تحقيق هذه الرغبات والغرائز. ويبدو الأب في مقدمة هذه العوائق بحسب هؤلاء، فتشب أحلام اليقظة الغريبة، التي يصبح فيها الصبي لقيطاً أو يتيماً.

هذه الرواية موجودة لدى كل شخص، وهي وإن تعامى عنها الروائيون أو أصحاب السير الذاتية، إلا أنها الرواية الأصدق موضوعياً.

لكن الرواية الفنية أمر مختلف تماماً. هنا يكون الكاتب تخلص من حلم يقظته الصبياني، وأصبح يمتلك رؤية للحياة، ويراكم أحلاماً، وتعتمل في داخله هواجس أخرى بعد تحقيق الرغبات والغرائز. هنا يصبح لحياته معنى وهو يدرك ذلك، لكنه لا يعرف المعنى تماماً، بل وربما يتغير هذا المعنى بين لحظة وأخرى. هنا يكون على الكاتب أن يبحث عن ذاته أولاً في الكتابة. وهذا يعني أن جزءاً رئيساً من الكتابة في مجمله هو رحلة بحث عن الذات. والبحث عن الذات يتطلب امتلاك المعرفة. وهكذا تصبح المعرفة هدفاً رئيساً من أهداف الكتابة. والمعرفة تبدأ بالأسئلة لا بالإجابات. والكاتب الناجح هو من يثير في قارئه تلك الأسئلة التي ربما وردت إلى ذهن القارئ عابرة ذات يوم، لكنه لم يجرؤ على طرحها حتى على نفسه، فيأتي الكاتب دليلاً ومحفزاً.

هنا يتشارك القارئ مع الكاتب في الكتابة. يصبح له هامشه الواسع الذي يتحرك فيه، وهو تلك الأفكار والأسئلة التي يصبح القارئ قادراً على مجابهة نفسه بها، بعد أن كان يلقي بها بعيداً في أقاصي الذهن والمخيلة. وما يحفز الكاتب على طرح تلك الأسئلة هو خياله المتوقد، وهو ـ أي الخيال ـ القادر على التمييز بين كاتب وآخر.

بهذه الطريقة تصبح الشخصية القصصية هي الكاتب نفسه، لا نسخة كربونية عنه. بالأفكار والهواجس والأحلام والخيال المتوقد القادر على الذهاب بعيداً في مغامرة الكتابة. وهو ما يجعل الكاتب يبتكر شخوصاً مختلفة من حيث الشكل والوقائع، ولكنها تظل هي الشخصية ذاتها التي تبتكر مزيداً من الأفكار والأسئلة والهواجس، بحيث تبدو مغايرة للشخوص السابقة للكاتب نفسه. وهذه الشخوص والوقائع والأسئلة الجديدة هي ما يحب الكاتب أن يكتبه. فالإنسان الحقيقي يتغير كل يوم، وإذا كان المرء لا يشرب من النهر الواحد مرتين، فإن الإنسان لا يكون هو ذاته بين يوم وآخر.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر