5 دقائق

الليلة المباركة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة، وردت فيها أحاديثُ وآثارٌ كثيرة، وصحبها العمل سلفاً وخلفاً في كل الأعصار والأمصار، ومن ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في السنن وغيرهم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا المشرك أو المشاحن»، وفي رواية أحمد: «أو قاتل نفس».

وقد ورد هذا الحديث بألفاظ متقاربة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أبوموسى الأشعري، وأبوهريرة، وأبوبكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة، وأبوثعلبة الخشني، وعبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين. ومنها ما جاء من رواية علي رضي الله عنه عند ابن ماجه في سننه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا، حتى يطلع الفجر».

وتكلم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيحته 3/135 - 139 عن هذه الأحاديث كلاماً محققاً مستفيضاً، صدره بقوله: «حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً»، وأنهاه بقوله: «وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب، والصحة تثبت بأقل منها عدداً، مادامت سالمة من الضعف الشديد كما هو الشأن في هذا الحديث». هذا وقد كان السلف من التابعين يحيون هذه الليلة عملاً بما ورد فيها من أخبار وآثار، فقد ذكر ابن رجب الحنبلي في «لطائف المعارف»، أن التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، كانوا يعظمونها ويجتهدون في العبادة فيها.

وذكر محمد بن إسحاق الفاكهي مؤرخ مكة (ت سنة: 275 هـ)أ في كتابه «تأريخ مكة» 3/،84 تحت عنوان «ذكر عمل أهل مكة ليلة النصف من شعبان»، ذكر أن أهل مكة في ما مضى إلى اليوم - يعني يوم تأليفه قبل اثني عشر قرناً - إذا كان ليلة النصف من شعبان خرج عامة الرجال والنساء إلى المسجد، فصلوا وطافوا وأحيوا ليلتهم بالقراءة في المسجد الحرام حتى يختموا القرآن كله. ومعلوم أن أهل الشام ومكة في ذلك هم من أهل القرون المفضلة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..». فإنهم إنما فعلوا ذلك تأسياً بمن أدركوا من قبلهم من صحابة وتابعين، ولم تكن البدع قد فشت، ولا البعد عن الله تعالى قد كثر. ثم توارث الناسُ ذلك العمل عنهم في سائر الأزمان والبلدان. على أن أصل هذا العمل مشروع قطعاً؛ لأنه ذكر الله تعالى في هذه الليلة فهو من جنس ما شرع الحق سبحانه وتعالى، فإن ذكر الله تعالى مطلوب في كل وقت، والصلاة خير موضوع، والصيام في شعبان من أجل الأعمال تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يكثر الصيام في شعبان ما لا يكثر في غيره كما هو ثابت مشهور.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر