5 دقائق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ورد عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، أن «موت العالم ثُلمة لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار»، ولا ريب في ذلك، فإن الأمة لا ترزأ بشيءٍ في هذه الدنيا كرزئها بموت علمائها الذين هم مصابيح الدجى وأنوار الاهتداء، الذين يأرز إليهم المسلمون لمعرفة دينهم، ويقتدون بهم في أقوالهم وأفعالهم، الذين رفع الله شأنهم، وأعلى مكانتهم، وجعلهم محل خشيته، وخيرة خليقته، الذين منحهم علماً لدُنياً، وفهماً قرآنياً، وتأسياً نبوياً، وعملاً صالحاً زكياً، الذين تستغفر لهم ملائكته وكامل بريته من إنس وجان وحيوان؛ لما لهم من نفع عام وهداية للعوام.

وقد كان ذك جلياً يوم الأحد الماضي، إذ رُزِئت الساحة العلمية عامةً ودائرة الشؤون الإسلامية خاصة، بوفاة مَن هذه بعض صفاته؛ إنه الشيخ الدكتور أحمد بن (ذو النورين) أحد السادة المفتين في إدارة الإفتاء، الذي أفنى حياته في رياض العلم؛ تعلماً وتعليماً بين المغرب العربي ـ شنقيط ـ ومكة المكرمة، حتى استقر به المقام في العقد الأخير من عمره في دبي العامرة بالخير؛ ليبث مخزونه العلمي الفياض لفلذة أكبادها، وطلاب المعرفة منهم ومن غيرهم.

إنه الشيخ الذي زاملته في الطلب وفي الإفتاء نحو ثلاثة عقود متوالية، وعرفت منه العالم العامل، والعابد القانت، والوفِيّ لإخوانه، والزاكي بأخلاقه، عرفته محدثاً وفقيهاً وحافظاً لكتاب الله، وعاملاً بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومحافظاً على مروءته، عفاً بلسانه، لا يفتر من ذكر أو قراءة أو إفتاء أو تعليم أو إرشاد للخير أونهي عن الشر، عرفته كُنَيفاً مُليءَ علماً من محفوظات المناظيم، وأخبار الصالحين، وأدب المحدثين، وتمسكاً بالسنة، وبعداً عن البدعة.

عرفته في الجامعة وهو كهل ولكن في همة الشباب، ولدى مشايخ الحرم وهو شيخ ولكن في تواضع الطلاب، وهو مفتٍ متمكن ولكن في ورع الصالحين، فيُسمِع بكلامه الأصحاب، وهو أبٌ حانٍ مُربّ لأبنائه، رباهم على حفظ الكتاب، وأبنائنا متدربي الفتوى، وهو يحاول أن يصب عليهم العلم صباً، من غير كلل ولا ملل.

عرفته وهو يحاورني في الفتاوى، ويناقشني في النصوص، ويُسدي إليّ النصح في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض من العلم النافع الذي أسند إلينا بيانه للسائلين والراغبين.

عرفته بزهد العلماء، وعفة الصلحاء، ونور الأولياء ووفاء الأصفياء.

عرفت منه الكثير ولعل ما غاب عني أكثر، إلا أن ابتسامته عندما كنت أصافحه وأقابله وأناقشه، لن تغيب عني، وقد كان يتحلى بالهدي النبوي في كل ذلك، فلا يضع يده ممن بسطها له مسلماً حتى يكون الآخر هو الذي يضع يده، وهو باسم الثغر في النقاش والأخذ والعطاء، مع الجد في الطرح، والثقة بالنفس.

ذلكم هو الشيخ الفاضل والعالم الكامل الذي فارقنا بنفس رضية إلى رب البرية؛ ليكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لعلمه وصلاحه واستقامته التي وعد الله أصحابها أنْ {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وأنه {تَتَنَزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنةِ التِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.

نعم لقد فقدنا شخصه وأنسه وعلمه وخلقه وورعه وزهده وعفته، وهي أمور نحتاج إليها متمثلة في العالم الذي يربي بحاله قبل مقاله، لكننا نحتسب مصابنا به ونسترجع لها لعل الله أن يأجرنا بمصابه ويبدلنا خيراً ويتغشاه برحمته الواسعة.

 

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء .

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر