5 دقائق

القراءة والكتابة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

أعجبني ما كتبه الأخ الكريم سامي الريامي رئيس تحرير هذه الصحيفة الفريدة، في زاويته شبه اليومية عن القراءة عندنا وعند غيرنا، وقد كانت المقارنة شبه معدومة بين القراءتين؛ إذ الفارق بين ست دقائق و200 ساعة سنوياً كبير جداً، فما مثل ذلك إلا كمن تريه السها ويريك القمر، وليس الأسف على فوات شيء من الحضارة الإسلامية كالأسف على مثل هذا، ذلك لأن القراءة هي أهم مقومات حضارتنا الإنسانية التي ننشدها، فضلاً عن أنها من ركائز ديننا الحنيف، فإن هذا الدين ما ابتدأ غيثه المِدرار الذي رحم الله تعالى به الأرض ومَن عليها، إلا بالقراءة أمراً وإشادة، في وقت كانت الأمة العربية أُمية، بل لربما عدوا القراءة عيباً، والأمية فخراً، والجاهلية منهجاً، فلما أراد الإسلام أن يغير وضع الإنسانية من الضلال المبين، والجهل الوخيم، إلى هداية الله تعالى، ونور العلم، لم تكن هناك وسيلة أكثر أثراً ولا نفعاً من القراءة والكتابة؛ لأنها تفتح ميادين المعرفة، وتوسع ذاكرة الفهم، وتفتح آفاق الدنيا والآخرة، والكتابة تسجل العلم، وتحفظ التاريخ، وتوثق المعارف، وتنقل الخبرات، فلم يهتم دين بالقراءة والكتابة كما اهتم بهما الإسلام، الذي هو دين الله المرتضى لعباده وخلقه.

وقد علم أسلافنا ذلك، فلبوا أوامر الله تعالى فقرؤوا وكتبوا ودوّنوا وصنفوا ونقلوا حضارة الإغريق واليونان والفرس وعربوها، فنبغوا في كل المعارف والفنون، يهديهم لذلك دينهم الذي طالما قرع أسماعَهم حضه على العلم وعلى وسائله من قراءة وكتابة، فكانوا بهما هائمين، وعليهما عاكفين، حتى إن أحدهم لا يجد وقتاً لأمس حاجاته؛ لانشغاله بالقراءة والكتابة والعلم أخذاً وعطاءً، وكان أحدهم إذا لم يكن له بد من ترك القراءة بُرهة لمقابلة الناس يُعِد للقائهم بَرْي الأقلام وإصلاح الكاغد (الورق)، ولربما آثروا العلم قراءة وكتابة على لذيذ الطيبات والشهوات المباحات، في أخبار متكاثرة، أود ممن يقرأ مقالي هذا أن يتتبعها في أخبار العلماء وتراجمهم كقيمة الزمن عند العلماء، وصفحات من صبر العلماء، والرحلة في طلب الحديث وغيرها كثير، إلا أني أؤكد أن صناعة القراءة اليوم عندنا كثيرة، أكثر منها بالأمس، فقد قضينا على أمية القراءة والكتابة تقريباً، فالكل يقرأ ويحسن الكتابة، إلا أن الكل لا يُعنى بهما؛ لعدم اهتمامه بالعلم الذي هو أفضل المناقب والمكارم، كما قالوا:

والعلم أسنى سائرِ الأعمال وهو دليلُ الخير والإفضال

فسواءٌ عنده الجاهل المطبق، والعالم المفلق، والأعمى والبصير، ولا يهمه أكان من المتميزين أم من المتأخرين، ما دام يجد سداداً لشهواته الحسية، أما المعالي العلية فليست عنده بحسبان، وكأني بما نبأ به المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة: أن يُرفع العلم ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا قد حل وحضر، وإلا كيف يثبت الجهل ووسائل المعرفة اليوم تترى، أينما كان المرء وجدها، قراءة وسماعاً ومتابعة برامجية وإلكترونية، فلو أن الـ200 ساعة التي يقرؤها الآخرون كانت عند قرائنا لصنعت منهم فلاسفة العصر، ومثقفي الدهر، ومبتكري الصناعات والمعارف؛ لما يتجمع لدى المجموع من المعارف المختلفة، ثم تتناثر عند التلاقي، بدلاً من الثرثرات التي تملأ صفحات المرء، ولعله ينوء بحملها يوم عرضها عليه.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر