5 دقائق

رجل السلام وجائزة السلام

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

السلام معنىً كبيرٌ راقٍ، دعا إليه « السلام » سبحانه، وجعله من أُسس تشريعاته لخلقه، ويطمح إليه عقلاء البشر على اختلاف دياناتهم ومشاربهم وثقافاتهم، فكان من اللازم أن يكون مفهومه بين الناس حيّاً، ليعملوا على تحقيقه حتى يعم المعمورة. لكن القليل منهم من يعرف معناه، ويدرك طرق تحصيله ونشره بين الناس، ولا يضره قلة سالكيه، { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكُورُ }.

فمعانيه كثيرة راقية محبوبة مُدرَكة بالحس، و إن تقاصر التعبير عنها أحياناً.

فمن معانيه نشر رسالة السلام التي أتى بها رسول السلام، وحبيب رب السلام سبحانه، ومن معانيه المسالمة بين البشر، فلا يبغي أحدٌ على أحد، بل يتعاونون على ما ينفعهم ويصلح حالهم ومستقبلهم. ومن معانيه إظهار المحبة للخلق، والرحمة بهم، وإيصال الخير إليهم، ومن معانيه العمل الجاد على الرقِي بحياة الناس وما يصلح معاشهم. فهذه المعاني وغيرُها كثير بدَهِية في تركيبها اللغوي، ومعناها الاصطلاحي، ولكن من الذي يسعى لتحقيقها في نفسه ومجتمعه وأمة آدم ونوح؟

ها هي الدول تتسابق على التفاني، وتقدمه على واجب الحياة ومستحقاتها، فمنها من تصنع وسائل الإبادة الجماعية للحياة والأحياء، ومنها من تصرف جُل مدخراتها ومقومات حياة شعوبها لاقتناء هذه الوسائل حتى تستخدمها في شعوبها في المقام الأول، أو غيرها أحياناً، ومنها من تسعى لتدمير الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالفساد الأخلاقي والإداري، حتى لا يبقى لمفهوم المحبة والتعايش السلمي معنى، بل يسعى القوي لأكل الضعيف من غير تردد.

وهكذا تنوعت البشرية بإضاعة ذلك المعنى الجميل لكلمة « السلام »، فكان لابد أن يُعاد له بريقُه، ولكن ممن يعيش واقعه، ويدعو إليه قولُه وفعله، كهذا الشيخ الذي لم يَجُد الزمان بمثله؛ إنه الرجل الفذّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي يدرس الناس السلام بأفعاله قبل أقواله، وبأحواله قبل نواله، فأقام حضارة هي الأولى من نوعها على مستوى العالم في وقت قياسي، وملك نواصي القلوب بما يقدم للناس من إحسان، وقد جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها.

وها هو اليوم يترجم واقعَه وأفعاله وأقواله بإنشاء جائزة كبيرة تتناسب مع مكانته السامقة أسماها « جائزة السلام »، في وقت كاد مفهوم السلام العظيم أن يتلاشى؛ لكثرة ما يسمع من نقيض له: تدمير، تفجير، قتل. ألفاظ مزعجة تمجها الأسماع، ومعانٍ مقلقة يقِف منها شعرُ حي القلب، ويتمنى أن لو حذفت من قواميس اللغات المختلفة؛ لأن البشرية خلقت لتعيش في هذا الكون الفسيح، وتتعارف وتتآلف، ومن أجل ذلك خلقها ربها سبحانه :{  يَا أَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا }، لا لتتناحروا وتتفانوا، فذلك من حق الملك سبحانه، فهو الذي يحيي وهو الذي يميت، والخلق ملكُه وفقراؤه، لذلك كتب وشرع أنه {  مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنمَا قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنمَا أَحْيَا الناسَ جَمِيعًا }، وبعث لهذه البشرية نبي الرحمة، ونبي السلام، ونبي المحبة حتى يعم هذا المعنى ويسود. إن جائزة السلام، من رجل السلام، ومن مدينة السلام، هي رسالة عامة لمن يحب السلام؛ أن يكون السلام شعاراً في القول، وظاهراً في الواقع، ولْيسعَ لهذه الجائزة بهمته، حتى يكتبه التاريخ، ويتغنى بذكره البشر.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر