5 دقائق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

من مآثر الإسلام الخالدة، وأسبقيته الرائدة سُنةُ الوقف، أي تحبيس الأعيان ذوات الريع وتسبيل ثمرتها، أو ذات النفع عموماً، لمن أراده الواقف، ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة، وهو من أجل القُرب وأفضل الطاعات، لدلالته على كمال البر وصدق المحبة لله تعالى، كما قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِر حَتى تُنْفِقُوا مِما تُحِبونَ}، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، أسرعَ الناس فعلاً له، استجابة لنداء الله تعالى إليه، كما كان من أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، الذي ما أن سمع هذه الآية حتى فهم منها أنها رسالة إلهية موجهة له، فتصدق بأحب بستانيه إليه، وجعله في الأقربين، وهكذا فعل غيره من ذوي السعة، فلم يبق أحد من الصحابة له شيء إلا وقف منه في أبواب الخير. ومع كونه قربة عظيمة لله تعالى، ونفعاً اجتماعياً عظيماً، وتكافلاً إنسانياً كبيراً، فهو أيضاً موردٌ اقتصادي كبير للمجتمع والدولة، فقد كان الوقف مورداً للتعليم وللطب وللفقراء وللحجاج ولساكني الحرمين ولمعاقل العلم الكبيرة، وللمسافرين ولمُبتغي الزواج، وللمنقطعين للعبادة، ولعمارة بيوت الله، وللحيوان من طير ودواب، فكان المجتمع ينعم في واحة الوقف، من أعوزه الدهر وجد في الوقف بغيته فيعيش عيشة كريمة.

لا جرم فإن أوقاف المسلمين من عقارات ومزارع ودكاكين هي من الكثرة ما أعيا بعض الدول حصرها. وكثير منها قد عَدت عليها عوادي العبث والطغيان، فضاعت بين النظار والولاة نهباً وغصباً، فلم يحمها وازع دين ولا قضاة المسلمين، فتأخرت رسالة الوقف حتى كادت تضمحل.

وها هي الصحوة بدأت تدُب لإعادة ما انتهب منه، وتجديد رسالته، وإحياء سنته، فعقدت مؤتمرات وندوات، وأنشئت مؤسسات لرعايته، كان من آخرها ما تم في الأسبوعين الماضيين، فقد عُقد مؤتمران علميان رصينان نافعان، أحدهما في رحاب جامعة الشارقة، والآخر في اسطنبول، وكلا المؤتمرين استنهضا هِمم العلماء والسلطات ليقوموا بواجبهم نحو الوقف السليب فيعاد، وإحياء سنته في نفوس الأثرياء بفعل ما يليق بثرائهم، وما ينبغي لهم فعله من نفع أنفسهم أولاً، ونفع المجتمعات بالإسهام بما يقدرون عليه ولو قليلاً عبر الصناديق الوقفية التي يتجمع منها الكثير فيكون خيراً وفيراً. لقد قام العلماء السابقون بجهد مشكور في بيان ما يحتاج إليه الوقف من عناية وحماية، وسطروا من فقهه ما يشفي ويكفي، وبقي على العلماء المعاصرين فعل الأكثر، تِبياناً لما يحتاج إليه الوقف اليوم من وسائل تعمير وتطوير وابتكار أساليب حديثة تتناسب مع تطور العصر وحاجة الواقع.

أما الدول فواجبها أكبر وأكثر في إعادة الأوقاف المسلوبة إلى طبيعتها، وبحسب شروط واقفيها، وتجديد ما اندرس منها، وإنشاء أوقاف أخرى يحتاج إليها المجتمع اليوم كما كان يحتاج إليها بالأمس، فلو وجدت أوقاف كافية لما احتاجت الدولة إلى تحمل ميزانيات باهظة لكثير من حاجات المجتمع التعليمية والطبية والإعالة وغيرها.

وهذا الغرب قد استفاد كثيراً من معارفنا الإسلامية، وأسبقيتنا الفاضلة في الوقف، فوقفوا للتعليم كبرى الجامعات العريقة وما يصلحها، وفي ميادين مختلفة.

بينما لم نرَ جامعة واحدة في عالمنا الإسلامي لها وقف يغنيها، حتى جامعة الأزهر وجامعة الزيتونة اللتين كانتا أغنى معاقل العلم وقفاً، وأقدمها بناءً، لم يعد لديهما من الوقف عشر معشار حاجتهما، فهل من سبيل لأن يعود الوقف إلى سالف عهده؟ اللهم نرجو.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر