كل جمعة

على بُعد دبابة

باسل رفايعة

دائماً كان مشهد الدبابة مريعاً بالنسبة لي، إنها كتلة ضخمة من الحديد الصلب، تزحف على الأرض الوعرة مثل أفعى أسطورية ضخمة، وتشي حركتها بوزن ثقيل، يسحن الحصى تحت جنازيرها الحديدية، ويتحرك مدفعها العملاق حركة كاملة وسريعة على منصة دائرية، تدعمها رشاشات أخرى، في حين يختفي قائدها في حجرة مدرعة، ما يُضاعف إحساس الرعب.

كأيّ عربي، كانت تغيظني دائماً الأخبار عن امتلاك إسرائيل دبابات متطوّرة جداً، لأن لا ساحة لاختبار مدى فتكها وقوتها سوى بيوت الفلسطينيين، وقراهم، ولكم أن تتخيلوا حجم الدمار الذي تُحدثه دبابة حين تدخل إلى حقل قمح، أو بستان زيتون، حيث لا توجد أسلحة مضادة للدروع، ولا طائرات مروحية، ولا ألغام يمكن أن تقاومها.

لم أفكر كثيراً في ما تمتلكه الدول العربية من الدبابات، ربما لأنني أعتقد أنها غير ضرورية، وأن الأموال التي تُدفع لشرائها تذهب هدراً، ثم إن إنشاء مصنع، أو بناء مستشفى، أو شراء آلات للحراثة والبذار والزرع أجدى وأهم من تكديس هذه الدروع في المستودعات، وربما لأنني أكره الحرب من حيث هي، وأرى أن علينا أن نفكر بطريقة أخرى لهزيمة إسرائيل، من دون أن نمنحها الفرصة لتلحق بنا كارثة، بعد نكبة، ونكسة.

الحديث عن الدبابة، لا عن إسرائيل، فهي عصابة نازية ـ همجية، لا تجوز مقارنتها أو القياس عليها، ولكن المشهد الجديد في العالم العربي، يستحث كل مفارقة، وغرابة، وأسى، وقد شاهدنا الدبابات العربية تجوب الشوارع في بلاد العرب، وتدكّ المدن، وتهدم البيوت على رؤوس النائمين فيها. وكل ذلك يُسمى عمليات عسكرية لفرض الأمن والاستقرار، والقضاء على الإرهابيين المتقاعدين.

الدبابات في شوارع عربية في عام 2011 تقصف رجالاً ونساء وأطفالاً يجلسون في منازلهم، عقاباً لهم على الخروج إلى الشارع، مطالبين بالحرية والخبز والكرامة، نتحدث عن دبابات يثير مجرد هديرها الهلع والجزع في القلوب. الدبابات باتت الخيار الأقصى في النزاع، بمعنى أن الهراوات وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، وحتى الرصاص المطاطي، والحيّ أيضاً.. كلها لا تكفي عقاباً للجوعى، الذين يهتفون من أجل الخبز واحترام الإنسان الكامن فيهم.

في مدن وبلدات وقرى عربية، شاهدنا ذلك بوضوح، لا فجيعة بعده، نعم، لقد شاهدنا دبابات، دفعت الشعوب ثمنها من جوعها ومستقبل أولادها، تقصف بيوتها وأحياءها، لبثّ الموت والرعب، وعلى من يريد الاحتجاج أن يتأكد أن بيته يستطيع الصمود أمام المدافع الجبارة التي تتحرك وسط الشوارع الترابية، ولا تأبه للضحايا، ولا لأعمارهم، ولا للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وقناة الجزيرة.

شاهدنا على شاشات التلفزيون دبابات في أمكنة عربية، تحاول إحداها، بصعوبة، دخول حيّ مرصوف بحجارة قديمة، كان يتجمهر فيه عشرات الشبان في اعتصام سلميّ، وشاهدنا رُتلاً من الدبابات يدخل إلى قرية صغيرة، لا تحتمل دروبها الصغيرة وقع المجنزرات.

هذا هو المشهد، اختلف في آخر الربيع العربي عن أوله، فقد صعد أطفال مصر وشبانها في ميدان التحرير على الدبابات، وكتبوا أحلامهم على فولاذها، قبل أن تجتاح أمكنة عربية أخرى، وتُخرج حممها على الطين والإسمنت والبشر، في ظلام ثقيل، لا يبزغ فيه ضوء إلا على بعُد دبابة.

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر