أبواب

فيروز

علي العامري

مع دخول «قضية فيروز» أروقة المحاكم، نكون قد دخلنا عمق النفق الذي يزداد عتمة بعد عتمة. ونصبح أكثر يتماً، وأكثر انكساراً وأكثر خذلاناً، حيث كلما تعلقت أرواحنا بأسطورة واقعية، وجدنا هناك من يفتت الحلم، ويشظي المرآة ويسكب عتمة في قلوبنا.

يتامى نحن، من دون فيروز التي توقظ يدها الفيروزية الصبح في الحجر، ليتدفق الضوء مع فنجان القهوة.

تربينا على صوتها، وتعلمنا من صوتها، وتجمعنا في صوتها، وانتشينا من صوتها، ورأينا أرواحنا وهي ترفرف في صوتها، وعشقنا وابتسمنا وتذكرنا وبكينا من حرير صوتها.

فيروز تفتتح الأيام، وتستدرج شمس الصباح شعاعاً شعاعاً. ومن خيط الفيروز في الصباحات يتجلى المزاج ويعلو.

فيروز ابنة الفلسطيني وديع حداد ابن الناصرة، غنت لفلسطين والقلب والدمع والفقر والمدن العربية، وغنت للحزن الذي يقطر في أرواحنا مثل ندى قديم. غنت للعشاق في أوج الحب، وغنت للعشاق في أوج الفراق، وغنت لهم في أوج الدمع والعتاب أيضاً. وغنت للشجر والقمر والشموس المخبأة في أقاصي أحلامنا. غنت للوادي وجارة الوادي، وغنت للجبال وهي تلمس زرقة الأعالي، وغنت للقرى وللعشب الذي ينمو على الحيطان، وغنت للحرية والعدل والمحبة. غنت للزمان والمكان والإنسان، وظلت صورتها متلألئة في أعالي قلوبنا، مثل تميمة صباحية. فيروز التي تشكل صباحاتنا، شكلت مع الأخوين الراحلين عاصي ومنصور «ثلاثي السحر» في الصوت والكلمة والموسيقى. وقاد الثلاثي ثورة ساحرة شكلت بؤرة في وجداننا.

فيروز التي تقترب من عامها الخامس والسبعين، شيدت «أسطورة» في الغناء، ودخلت القلوب قبل البيوت، وكانت قاسماً مشتركاً بين جميع العرب. وعلى الرغم من الخلافات السياسية بين اللبنانيين، التي وصلت إلى حد «الحرب الأهلية»، فإن فيروز كانت خيط العقد، تجمع كل حباته المتنوعة.

فيروز ومنذ أن اكتشف جوهر صوتها الموسيقي محمد فليفل، ظلت تشدو للحب بأشكاله المتعددة، وظلت صورتها أيقونة تشع سحراً. غنت في مدن العالم، وجمعت القلوب حول فنها الاستثنائي، وصورتها الاستثنائية، وشموخها الاستثنائي.

واليوم، وعلى الرغم من خلط الأوراق في «قضية فيروز»، فمن مصلحة من الزج بالأسطورة في ملفات القضاء؟ ولماذا يخرج «الخلاف» من البيت إلى المحاكم، مع أن إبداع «الاخوين» إرث للإنسانية؟ ولماذا يتم التعامل مع الإبداع باعتباره «كنزاً» يفرّق ولا يجمع؟

من منا كان يتوقع في يوم من الأيام أن يدخل الصوت الفيروزي في محكمة ليحاكم، وأن يصدر إنذار قضائي بمنع فيروز من غناء نحو 25 عملاً غنائياً؟

ولماذا يراد «تيتيم» صباحاتنا الباقية؟

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجي النفر على إسمه

تويتر